يوميات الجائحة .. السفينة المنبوذة

200

الاردن اليوم- كتب الدكتور عاصم منصور  :

لم يدر بخلد المسافرين على متن الباخرة السياحية البريطانية الفارهة ديموند برنسيس “أميرة الماس” أن رحلتهم الخلابة ستنقلب بين عشية وضحاها إلى كابوس امتد للأسابيع عدة، كانت خلالها هذه الباخرة تمخر عباب مياه المحيط الأطلسي تارة و حديث العالم تارة أخرى .

فالباخرة التي انطلقت من مرفأ “يوكوهاما” صباح العشرين من كانون الثاني 2020م، وعلى متنها حوالي (3500) مسافر جاؤوا من خمسين دولة، إضافة إلى مئات من طواقم العاملين فيها، والتي كان من المفترض أن تبحر مسافة خمسة آلاف ميل، تمر فيها على ست دول من جنوب الشرق الاسيوي؛ وكان المسافرون يستجمون ويقضون وقتا ممتعاً مأخوذين بجمال الرحلة وبرامجها الترفيهية المميزة، إلا أن وصول رسالة من خلال البريد الإلكترونيّ من هونج كونج عكر صفوهم بما يحمله من أخبار غير سارة حيث تبين أن أحد المسافرين الذي غادروا الباخرة قبل ستة أيام قد ثبتت إصابته بـ(ﭭيروس كورونا)

وتوالت بعدها الأخبار المقلقة حول تسجيل العديد من الإصابات بين الركاب وطاقم العاملين على متن الباخرة ؛ ودب الرعب في قلوب المسافرين جميعاً والذين وجدوا أنفسهم في عزلة عن العالم في عرض البحر فوق متن السفينة المشؤومة ومخاوفهم من المجهول الذي يخبئه لهم القدر!

وسادت مشاعر مختلطة من الخوف والقلق والإرتباك بين الركاب ، فلم يكن العالم حينها قد اكتسب الخبرة والمعرفة الكافيتين حول كيفية التعامل مع هذا المرض ولم يكن قد تشكل لديهم فهم واضح بعد لتصرفات وصفات الفيروس، فالأخبار التي كانت تتوالى من الصين حول المرض اتسمت بالرهبة والغموض وكانت مخيفة إلى حد ما؛ لكن دول العالم المختلفة كانت تتعامل معها كما لو كانت شأنا صينيّاً محليّاً ولن يخرج من عقاله لينتقل إلى فضاء العالمية.

ومما فاقم من قضية عزلة الباخرة عزوف كثير من الدول المجاورة عن استقبال المسافرين والسماح لهم بدخول أراضيها خوفا من انتشار المرض في بلدانهم.

لقد حاول طاقم الباخرة ببطولة نادرة التعامل مع الوضع المتفاقم، فقاموا بفرض منع التجول على متن السفينة وقاموا بتوفير الوجبات الغذائية والخدمات الأخرى للمسافرين في غرفهم، كما قام الطاقم الطبي بإجراء الفحوصات المخبرية للمخالطين والمصابين.

وتحت ضغط مواقع التواصل الاجتماعي رضخت السلطات اليابانية ووافقت على دخول كبار السن وبعض أصحاب الأمراض المزمنة إلى أراضيها ليتم عزلهم هناك وسط حالة من عدم الترحيب من قبل المواطنين الذين رأوا في هؤلاء الركاب خطرا محدقا.

لقد كان مشهد وداع أفراد العائلات لبعضهم البعض مؤثراً، فلا من بقي على متن الباخرة كان يعلم ماذا ينتظره، ولا من وصل إلى اليابسة كان يعلم مصيره!

لقد علّمت هذه التجربة العالم بأسره العديد من الدروس فقد كان دور القبطان القيادي في إدارة الأزمة بحزم وبدقة عالية محوريّاً للنجاة من الكارثة بأقل الخسائر، وهذا الدرس أسقط في وعي العالم أزمة حقيقية في الكشف عن التباطؤ في إدارة دفة القيادة الحازمة في مواجهة الوباء الذي شرع ينتشر كالنار في الهشيم. فضعف القيادة كانت سبباً مؤكداً فيما آلت إليها الأمور في العديد من الدول في ظل الأوضاع السيئة والظروف الصعبة أثناء انتشار الوباء وتقاعس كثير من الدول عن مواجهته بوعي أكبر.

وحقيقة بالنسبة للمسؤولين على متن باخرة “أميرة الماس” فقد شكل تواصلهم مع الركاب بذكاء عاملاً مهماً في مخاطبة مخاوفهم وبث نوعاً من الطمأنينة وروح الأمل في نفوسهم والتصرف بمسؤولية إزاء إدارة كارثة أثناء ابحار الباخرة ولم تعجزهم الظروف التي عاشوها عن الهروب من المواجهة وتحمل مسؤولياتهم إزاء المسافرين وهم في عرض البحر وحتى بعد الإعلان عن إصابة المسافر
ومن جهة أخرى فإن العاملين مضطرين، على ظهر الباخرة، لم يتوقفوا عن العمل بالرغم من مخالطتهم لبعض المصابين؛ مما أدى إلى ارتفاع عدد الإصابات؛ وهنا تكمن أهمية العزل المبكر للعاملين، كما كان للأماكن المشتركة على متن الباخرة دوراً مهما في نشر العدوى، ومن هنا تأتي أهمية تطبيق مبدأ تصنيف المناطق حسب خطورة نقل العدوى.

وبعد حوالي شهر من بداية الأزمة بدأت بعض الدول بإرسال دعم جوي وقامت طائراتها بإخلاء مواطنيها عن متن الباخرة المنكوبة، وقد بلغ عدد الإصابات على متن الباخرة (712)سبعمائة وإثنا عشر إصابة، من بينها سجلت إحدى وعشرين وفاة، وبهذا صنفت الباخرة في المرتبة الثانية من حيث الإصابات على مستوى العالم بعد ووهان الصينية.

ورغم فداحة المحنة التي عاشها المسافرون على متن هذه الباخرة؛ إلا أن هذه التجربة قد شكّلت فرصة سانحة للعالم لدراسة سلوك الـﭭيروس في ظروف أشبه بظروف المختبر، فقط كانت هذه الباخرة عبارة عن “طبق بيتري” عائم، أعطانا فكرة عن مدى شراسة الـﭭيروس وقدرته على الانتشار، ومدى نجاعة وسائل مقاومته، والفئات الأشد تأثراً به، وجدوى العزل الصحي والأمراض النفسية الناتجة عن العزلة، كما كان دور وسائل التواصل الاجتماعي مؤثراً جداً في لفت أنظار العالم إلى مأساة هذه الباخرة.

وهذه كلها شهدها البشر لكن على نطاق أوسع في الأشهر التالية عندما اجتاح الـﭭيروس العالم مخلفاً وراءه ملايين الضحايا.

لقد ختم ماركيز غارسيا تحفته النصية الساحرة “الحب في زمن الكوليرا” حول الحب الأبدي الذي يزداد اشتعالا كلما دنا من الموت، على وقع سفينة تحمل علم الكوليرا الأصفر تجوب نهر مجدولينا الكاريبي وعلى متنها العاشقين فلورانتينو أريتا وفيرمينا داثا في رحلة أبدية تنبذها المرافيء وتبقيها بمنأى عن عيون الفضوليين، لكنه لم يكن يعلم أن باخرة مماثلة سوف تجوب المحيط بعد عدة عقود تحمل آلاف الأوراح تتقاذفها الأمواج حبيسة العزلة ومنبوذة بين المرافئ الفزعة من خطر العدوى.

*طبق بيتري Petri Dish هو طبق زجاجي يستعمله علماء الأحياء لاستنبات البكتيريا والفطريات، وجاءت تسميته من اسم العالم الألماني يوليوس بتري الذي اخترعه عام 1887.

 

التعليقات مغلقة.