لا يخاف التاريخ إلا من تؤذيه الحقيقة

292

الأردن اليوم –  المهندس سليم البطاينة
علامات الفشل في التغير لا تحتاج إلى دليل أو قرينة ، والمشكلة باتت في الإصرار على الإستمرار بالفشل وإعادة مغذياته، وصناعة الأوهام أصبحت أقصر الطرق للتغطية على الفشل في الإصلاح وإدارة شؤون الدولة، ورخاوة الإرادة السياسية منذ زمن أدت إلى تفاقم بنية الفساد.

وحال الأردنيون كما يرصده البعض حاليًا أشبه بالصعود والهبوط ما بين رغبة في التغير والإصلاح ، بين سكون واستسلام للأمر الواقع بحثاً عن الإستقرار ، ونوبات اللايقين تغزو حياة الأردنيين منذ سنوات طويلة ، واللايقين عمليًا يورث القلق ما دامت حالة العناد والغرور مستمرة .. فالعناد لا يثمر إلا الإنتصار للأنا ، ونحن حقيقة نحتاج إلى بديل أو نقيض للعناد والغرور وعدم المبالاة .. فالمخاطر تتفاقم وتزداد حدتها إذا بقي العناد مستفحل .. فالمغرور والعنيد يبتلع الوطن في ذاته فيصبح هو الوطن والوطن هو ، ويزداد أعدائه بسبب أخطاءه وأخطاء من حوله.

والغالبية العظمى ممن كان يطلق عليهم نُخب سياسية أو ( زعاطيط السياسة ) وهو مصطلح كان يردده دوماً رئيس وزراء العراق في العهد الملكي ( نوري السعيد ) الذي قتل عام ١٩٥٨ ، فشلوا خلال العقدين الماضيين في الإنتقال من المراهقة السياسية إلى النضوج السياسي ( مصطلح زعطوط يطلق على الشخص البالغ الذي يتصرف كطفل، وتصدر عنه سلوكيات غير مقبولة ).

ومدوّنة التاريخ حافظة لذاكرة الوطن ، وهي مرآة الشعوب والعامل الأساسي في تعميق الشعور بالهوية ، وهنالك الكثيرون ممن أطلق عليهم نور السعيد ( زعاطيط السياسة ) يأتي بهم التاريخ ويذهبون دون أن يبقى لهم أثرٌ في تاريخ وطنهم.

والمفارقة أن الكثير من المحللين وأصحاب الفكر السياسي الرزين يتعاطون مع ما يحدث في الأردن على أنه حقائق ينبغي التسليم بها لأن القوى التي تقف خلفها أكبر من قدرات شعب ضعيف مسلوب الإرادة ، يبحثُ الفرد فيه عن لقمة عيشه.

وكم أعجبتني مقولة المُفكر الأمريكي من أصل ياباني Francis Fukuyama بأن اليابان لم تُبنى بعد الحرب العالمية الثانية بالمال فقط، ولكن بنوعية القيادات التي تولّت قيادة المؤسسات.

فقبل أيام شاهدت فيلماً مصرياً قديماً يعود تاريخه لعام ١٩٧١ يجسّد رواية الكاتب العربي المصري الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام ١٩٨٨ نجيب محفوظ ، والرواية بعنوان ثرثرة فوق النيل تحكي أفكار المثقفين وواقعهم، وتعطي لنا نماذج لأدلجاتهم التي عاشوها ردحًا من الزمن تجمع بين النقد السلبي والإيجابي وبين محاولة ترميم حالتهم التي تهدمت .. والرواية تدور حول سرد للواقع السياسي والإجتماعي للمصريين في تلك الفترة من الزمن ، وكأنها تُحاكي زمننا هذا .. فهناك تشابهٌ كبيرٌ بين الأحداث والأسئلة عن أوضاع البلاد وقتها ، وبين الأحداث التي تحصل حالياً في الأردن ، فالتشابه بينهما كبير رغم فارق السنين.

يُقر كاتب الرواية في نهاية روايته أن جوهر المشكلة في أي بلد عربي تكمن في الثقة ، ومن دونها لن يتم حل أي مشكلة أو أزمة ، وأن أي حوار صادق مع الناس هو الطريقة الأكثر فاعلية لتغير مواقفهم.

الدولة الأردنية حالياً لا تعرف ماذا تريد ؟ ومن تُرضي ؟ ومن تغضب ؟ فالخراب في الدولة هيكلي من الأساس بسبب سياسات الفساد الإسترضائية والإقتصاد الريعي التي تسبّبت بتصدّع للحقيقة وعدم وضوح الخط الفاصل بينها وبين الواقع ، والحقيقة ليست حكراً ووقفاً لأحد ، فمن حق كل أردني أن يسأل ويبدي رأيه وأن تكون هناك نافذة للحقيقة .. فبيئة الإحتقان تُضعف الدولة ، فمعظم اتفاقياتنا أُبرمت سراً وفي الخفاء دون أن يعلم عنها أحد ، وحينما يُكشف أمرها تُبذل الجهود سريعاً للتغطية عليها وإبعادها عن دائرة الضوء.

والأردن اليوم ليس كالأمس فهو على أعتاب مرحلة قد تنتهي إلى ما قاله عنه السفير الأمريكي في عمان ( Henry T. Wooster ) “الأردن الجديد” بولادة مسميات تم التخطيط لها في الخفاء ورُسمت ملامحها بأدواتٍ وأيادٍ من صنع محلّي من عالات وزعاطيط المشهد السياسي.

والسياسة لمن لا يعرف هي مرونة وسعة صدر وعقل وصبر وحكمة وذكاء والصمت عن قول الحقيقة مهما كانت جريمة تُضاف إلى ما سبقها من جرائم وأخطاء أوصلتنا إلى ما نحن به الآن .. فلنُصحح تاريخنا البئيس ونُنظفه من آثار التضليل ، فحالة الإنسداد الحالية تتطلب طروحات وأساليب عمل مغايرة ، وخطاب مغاير ، وقادة مختلفين يفعلون ما يقولون ولا يقولون ما لا يفعلون.

فعندما تتكاثر المصائب حولنا يمحو بعضها بعضاً وتحل بنا سعادة جنونية غريبة المذاق نستطيع من خلالها أن نضحك من قلب لم يعد يعرف الخوف.

التعليقات مغلقة.