ماذا قصد الوزير ؟ وما هي شكل التضحيات المؤلمة القادمة ؟
المهندس سليم البطاينه
لابد من مصارحة الناس إلى أين نسير ، وعند أي محطة سنتوقف ؟ ففي حياتنا العديد من اللحظات التي تضطرنا لحبس أنفاسِنا بإنتظار شيء قادم لا نعرف عنه شيء … والسؤال هو : ماذا قصد الوزير ولماذا هذا الوقت تحديداً ؟
قبل أيام أعلن وزير المالية الدكتور محمد العسعس أن هناك تضحيات مؤلمة تنتظرُنا ، ثم اختفى وتوارى بعيداً عن المشهد ، ولم يعد أحدٌ يسمع صوته !! وهو بالتأكيد لا يحتاج إلى مناورة ليقول لنا ذلك ، وربما أراد الرجل أن يستبق أمراً ما ، أو مصيبة قادمة … فرغم مرور ما يزيد عن عدة أسابيع على تصريحاته إلا أنها ما زالت تُشكل قلق ورعب وخوف.
فما يجري اليوم وما نسمعه هو الجزء الأكثر وضوحاً من الصورة ، والقبول بالتضحية يفترض عمليًا وجود قواعد واضحة وغير رمادية … وللخروج من أزماتنا يجب أن يأتي ذلك ممن كان السبب فيها ، لا بتضحيات مؤلمة يدفعها الفقراء لإنقاذ كيانات معينة على حساب ملايين الضحايا ، وحين نسأل مثلاً من يتحمل ما وصلنا إليه اليوم من تردي وانهيار ، يكون من السهل جداً القول أن من يتحمل ذلك هو الحكومات المتعاقبة.
فالفقراء في الأردن ومن تبقى من أفراد الطبقة الوسطى لم يعودوا مستعدين لمواصلة لعب دور الضحية ، ولا يمكن لهم بأي شكل من الأشكال أن يقرأوا المرحلة الماضية دون وجود أطراف عدة تتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه ، فالشعب لا علاقة له بما حصل ، فالنهب والسلب والفساد والتشوه في بنية الإقتصاد كانوا أحد أسباب الحالة المأزومة التي نحن بها الأن … فمن غير الممكن أن تُعالج أخطاء وتجارب المراحل السابقة وسلبياتها في ظل البيئة نفسها التي أوجدتها ورسختها بنفس الأدوات والأطراف.
نحن نعيش اليوم مع ملهاة مستمرة لا نهاية لها ، فمنذُ نهاية الثمانينات تحوّلت برامج وتجارب الإصلاح الإقتصادي إلى كوارث بالنسبة للفقراء وأبناء الشرائح الدُنيا من الطبقة الوسطى ، لأنهم كانوا يدفعون في كل مرة الثمن وحدهم دون غيرهم ، فأية تضحيات مؤلمة كما يقول الوزير سيقع عبئها على كاهل الأشخاص الأضعف اقتصادياً ومالياً … أي أن الفقراء سيتحملون الجزء الأكبر من أية تضحيات قادمة.
وقد تعودنا منذُ سنين طويلة أن أي قطف لثمار تسقط كلها في أيدي المتنفّذين والأغنياء والأوليغارش مما أدى بنا إلى عدم التميز بين الأغنياء الشرعيين والأغنياء الغير شرعيين في الأردن … فهناك شركات وأصحاب بيزنس أقاموا مصالح مشتركة مع السلطة السياسية ، سمحت لهم تلك العلاقة الغير شرعية بالتنعّم بالكثير من الإمتيازات وجني الأرباح.
والإنفلات الإقتصادي لمن لا يعرف هو أشد خطورة من الإنفلات الأمني … فمنذ عام ١٩٨٩ ركزت السياسات الإقتصادية على مجموعة من المحاور تمثّلت في تحرير الإقتصاد استناداً إلى فلسفة السوق الحر ، وتحرير التجارة الخارجية ، ورفع الدعم عن السلع الأساسية وتخفيض الإنفاق على الخدمات الإجتماعية والتعليم والصحة والنقل .. الأمر الذي أدى إلى تعميق الإختلالات الإجتماعية ، وازدياد رقعة الفقر.
فالنظام الإقتصادي في الأردن هو نظام رأسمالي معروف داءه جيدًا ، لكن للأسف القائمين عليه كثيراً ما يصفون الدواء الخطأ الذي من أعراضه الجانبية الفقر والتضخم ، والركود التضخمي ، فاقتصادنا لازال يعاني من اختلالات هيكلية عديدة تعبر عن ذاتها كعجز الموازنة المزمن والمستمر وعجز ميزان المدفوعات والميزان التجاري وارتفاع المديونية ، والأهم هو عدم تحديد هويتنا الإقتصادية.
ومن هذه الخلفية يحدث الأن ما يحدث وما يقلقُني أننا نمرُ بمرحلة تُجرى فيها مجموعة من التجارب ، وما نعيشه ليس سوى انعكاس للواقع التجريبي هذا … فأسوأ ما نعانيه في الأردن الآن يكمن في غياب الرؤية وضعف البصيرة وفقر الخيال ، وبات المطلوب فكر جديد يقودنا بطريقة غير تقليدية للخروج من نفق الإنهيار.
لقد تعبنا بالقدر الذي لم يعد يحتمل الكتابة ويبدو أن الجميع غرق في البرك الآسنة ، وبات الحل هو اللاّ حل.
التعليقات مغلقة.