الملك عاد.. حقا عاد

111

الأردن اليوم – مالك العثامنة

في العام 2010، كانت بلجيكا بلا حكومة، وضربت رقما قياسيا تم تسجيله في موسوعة “غينيس” حين بقيت الدولة بلا حكومة لأكثر من 500 يوم.

في هذه الأيام الخمسمئة لم تهتز الدولة. بقيت المؤسسات هي المؤسسات، تؤدي خدماتها بثبات واستقرار، والإدارة العامة للدولة كما في قطاعها الخاص كانا يسيران ضمن منظومة قوانين مرعية ومؤسسات مستقرة بلا أي إشكاليات. لكن كان لا بد من حكومة لتسير الدولة إلى الأمام وتطور تشريعاتها ويكتمل معنى الدستور، فتم انتخاب حكومة ائتلافية برئاسة “ديروبو” لتستمر مسيرة الحكومات.. المنتخبة طبعا.

بعد تشكيل حكومة ديروبو بقليل، قرر الملك الوالد ألبير التنازل عن العرش لابنه “الأمير حينها” فيليب، وتنازل الملك، وهو منصب فخري ورمزي، ليصبح الملك فيليب ملكا على البلاد، ويكون الخبر الملكي ليس أكثر من عجالة موجزة على نشرة الأخبار.

تصبح المقارنة ظالمة، لكنها مشروعة، حين تصدر الجريدة اليومية الأقدم والتي تتبع المؤسسة الرسمية بمادة مكتوبة (أجد حرجا بتسميتها مادة صحفية) على الصفحة الأولى للجريدة، وهي مادة أشبه بمنشور رسمي مقذوف من زمن دوقيات العصور الوسطى. في تلك المادة تهديد ممزوج بخرافات لها نكهة التاريخ وألعاب بهلوانية “رديئة الجودة” في البلاغة المستعصية ولغة خشبية في الخطاب، كلها بمجموعها تحاول تمجيد الملك وتحميل رجل عصري حداثوي يتقن اللغة الإنكليزية ولغات أخرى ومتعلم بأرقى الجامعات الغربية عباءة العصر العباسي الأول.

المادة “العصية على التصنيف في أبواب الكتابة”، كانت ردا قاسيا وبلغة تهديدية على سؤال “أين الملك؟”. وهو السؤال الذي شغل الشارع الأردني هذه المرة أكثر من أي مرة سابقة، رغم أن غياب الملك دستوري ما دام لم يتجاوز المدة القانونية التي ينص عليها الدستور.

لكن، هذه المرة، من دون غيرها من المرات، كانت الشائعات على وسائل التواصل الاجتماعي في الأردن وخارجه تقود الشارع إلى تصعيد السؤال. قد يكون السؤال عاديا جدا لو كانت دولة المؤسسات والقانون فاعلة، بحكومة تملك ولايتها الدستورية بلا نقصان، ودولة لها استراتيجية في الحكم واضحة غير خاضعة لمتغيرات محلية ومرجعيات تشبه مراكز قوى تفوقت على الحكومة في سيطرتها وكلها تصب عند الملك نفسه.. مما يجعل الغياب معضلة، ويحول إجازة خاصة وموسمية معتادة للملك إلى أزمة سياسية!

بكل الأحوال، عاد الملك، وعودته قد يعقبها ـ حسب شائعات عمان التي تعيش على الشائعات – قرارات مهمة.. وقد لا يحدث ذلك كله. لكن الملك رجع إلى عاصمة ملكه، في اليوم التالي للمادة المكتوبة إياها والتي توسل كاتبها وابتهل الله ألا يقطع الملك إجازته كرد ـ حسب رأيه ـ على “ديدان الأرض” كما وصف من تساءلوا عن الغياب!

بعيدا عن أقاويل الصالونات التي يمكن التقاط الكثير منها بعد لملمتها وغربلتها، فإن المنطقي أن يقوم الملك “رأس الدولة وحامي سلطاتها الثلاث”، بما يكفي لإنقاذ الدولة، أو بالأحرى والأصح، استعادة تلك الدولة ووضعها في سياقها الدستوري الصحيح، لتبدأ بالضرورة المرحلية والتاريخية دولة المؤسسات والقانون، الدولة المدنية والتي تجلت أول إرهاصاتها بما تم تسميته بحراك الدوار الرابع (وهو مقر الحكومة) وقد أطاح هذا الحراك بامتياز بحكومة الدكتور هاني الملقي، وبشكل غير مباشر فقد أطاح بكل حكومات “جلالة الملك” التي سبقت حكومة الملقي، ليصبح الدكتور عمر الرزاز رئيسا جديدا لحكومة جلالة الملك الجديدة.

هي ذاتها حكومة جلالة الملك، والمكلفة من قبل الملك نفسه، وبخطاب تكليف فيه توجيهات من الملك ذاته، لكنها لسبب ما لم تلق قبولا عند الجريدة الرسمية الأولى وكاتب النص الهمايوني إياه، ليتهم حكومة جلالة الملك بأنها تسحب الشرعية والشعبية من الجيش والملك!

هل هي لعبة ألغاز أم فوازير؟

ببساطة، هي لعبة صراع قوى، بين “قوى الوضع القائم” وقوى التغيير نحو الأمام، نحو تحريك الجامد في الدولة.

فبينما قوى التغيير لديها رؤى واضحة وحلولا قابلة للتطبيق نضجت بشكل طبيعي وتحت عوامل عديدة فإن قوى الوضع القائم خاوية على مصالحها المتآكلة، وخالية اليدين من أي مشروع حقيقي ومع ذلك فهي منهمكة في افتعال حروب وأزمات بشراسة من أجل البقاء.

“قوى الوضع القائم” تعبير ذكي أطلقه الدكتور مروان المعشر، وهو سياسي أردني ووزير أسبق، في مقال تم حجبه عن النشر في الجريدة الموازية للجريدة الأولى في الأردن صاحبة النص “المنفلوطي”، والجريدة الثانية (الغد) سبق أن شغلت الناطقة الرسمية باسم الحكومة الحالية، منصب رئيس لتحريرها.

لكن الملك في ذات حوار البوح مع غولدبرغ أضاف أنه “الوحيد القادر على قيادة التحول الديموقراطي في الأردن”.قوى الوضع القائم، الآن في الأردن، هي تلك الديناصورات ذاتها التي اشتكى منها الملك نفسه للصحافي الأميركي جيفري غولدبرغ عام 2013 وسربها الصحفي إلى صحيفة “ذا أتلانتيك” ببوح مقصود تم نشره، قال فيه الملك ما قاله حينها ومن ذلك إنه ينوي تحويل الأردن إلى النظام الملكي الدستوري “على الطريقة البريطانية”، وهذا يعني طبعا تفعيل حياة حزبية وتلك طريق طويلة وشاقة في مجتمع “آمن قراطي” محافظ.

وانتقد الملك في ذات الحوار عام 2013 تعاون بعض السياسيين وقادة العشائر الأردنية الذين “وصفهم بالديناصورات” مع بعض المؤسسات الأمنية والتيار المحافظ الرافض للإصلاح السياسي.

هي حرب الملك إذن، على “الملكيين أكثر من الملك نفسه”، حسب المعطيات.

وهو مفترق الطرق الأخير للدولة الأردنية في سياق تحولات إقليمية ودولية عميقة نحو مراحل ليست كسابقاتها ممن يحاول كاتب “ديناصوري” مثل صاحب النص التهديدي “للأمة الأردنية” التعلق بها كسوابق تاريخية لإثبات ما لا يمكن إثباته.

الملك، بعد خمسة أعوام من تصريحاته، لا في الأتلانتيك وحسب، بل في كثير من أحاديثه، يجد الفرصة اليوم في شارع يريد استعادة الدولة، وصياغتها من جديد دولة مدنية ومؤسسية يحكمها الدستور والقانون، وشارع حر ديموقراطي، يسأل عن الملك، بل ويسأله أيضا عن كل ما يحدث ضمن دولة مؤسسات، دولة رأسها الملك تحت الدستور.

اترك رد