نذر البؤس ” نحو تأصيل لحكايات التجديد والإصلاح في التعليم والتدريب المهني.. (( الحقيقة المغيبة ))

62

كتب الدكتور ماجد الخواجا / خبير التعليم والتدريب المهني

مع بداية استحداث ما سميت بالمشاريع التدريبية والتي استهلت بالمشروع الريادي وبعده مشروع التدريب الوطني، بدأ التفاوت في المزايا بين الملتحقين بالتدريب، وبين المدربين أنفسهم، وبين الإداريين والفنيين من حيث بروز مفهوم المكافأة التدريبية للملتحق في هذا المشروع أو ذاك، وفي الرواتب والحوافز الممنوحة للعاملين على حساب المشاريع أو المنتدبين إليها وبين الكادر الوظيفي للمؤسسة.
فأصبح مشاهدا دخول طالبين صباحا للمشغل التدريبي الواحد، أحدهما يحصل على مكافأة وبدلة وحذاء عمل ، فيما زميله بنفس التخصص لكن ليس من طلبة المشروع، فهذا لا يدفع له شيئا، بل يطلب منه أن يسدد الرسوم التدريبية وأن يشتري بدلة العمل. كذلك كان المدرب المتعاقد مع المشروع يحصل على مكافآت سخية فيما كان زميله بنفس المشغل لا يتقاضى غير راتبه المعلوم.
بدأ التدخل المباشر لوزارة العمل في مهام وأنشطة المؤسسة تبعا لرغبة الوزير، ومع السيل الجارف المنادي بالتخاصية وتحويل القطاع العام إلى أجزاء يمكن إعادة تأهيلها واستثمارها بالشراكة مع القطاع الخاص. ومع توالد المنح والتمويل الأجنبي، ومع وضع الخطط والاستراتيجيات التي دعت كلها إلى التوجه نحو التعليم والتدريب المهني وكأنه مفتاح الحلول السحرية للقضاء على البطالة وتشغيل الخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل.
ومع تطور تكنولوجيا المعلومات وشيوع ما تسمى بالعروض التقديمية الزاهية بألوانها وتصاميمها، فقد أصبحت الحكومات تستمتع في مشاهدة تلك العروض التقديمية بأرقامها واحصائياتها ومؤشراتها وأشكالها الهندسية ومنحنياتها الملتوية، وصولا إلى حكومة الدكتور معروف البخيت الأولى ووزير العمل الآتي من صلب القطاع الخاص حينها، وصاحب الاتجاهات السلبية نحو مؤسسة التدريب المهني ورغبته في تحويلها وحتى بيعها للقطاع الخاص، فجاء أحد العروض التقديمية بأن قطاع المقاولات والإنشاءات يحتاج خلال الفترة القادمة إلى تشغيل 150 ألف مهني مؤهل في المجال.
بناء عليه فقد تم إنشاء الشركة الوطنية للتشغيل والتدريب والتي استند في إقامتها على أن تكون مكلفة بتوفير التدريب للمواطنين في قطاع الإنشاءات، ورفعت شعار ( نحو توطين العمل في المهن الإنشائية) على أن تكون إدارتها والإشراف عليها من قبل القوات المسلحة الأردنية بالتعاون مع وزارة العمل وأدواتها التنفيذية، حيث أصبحنا نسمع مصطلح أن مؤسسة التدريب المهني هي أحد أذرع وزارة العمل التدريبية. مع أن المؤسسة بحسب قانونهاهي مؤسسة حكومية ذات استقلال مالي وإداري، وقد بقي هذا حبرا على ورق منذ تأسيسها.
مع بدء عمل الشركة الوطنية لم يكن من حاضنة لأعمالها سوى مراكز التدريب المهنية، حيث تم تفريغ معظم مشاغل أكبر تسع مراكز للتدريب من أجل تحويلها إلى مراكز متخصصة في التدريب على المجالات الإنشائية.
كما تم استقطاب أفضل المدربين للعمل في الشركة مقابل امتيازات ورواتب أعلى بكثير مما كانوا يتقاضونه عن عملهم في المؤسسة.
ومع بداية التدريب على المشروع السياحي المعني بالتدريب في المجالات الفندقية والسياحية، ومع الامتيازات التي بدأ يتقاضاها الكادر الوظيفي لهذا المشروع وللشركة الوطنية ، ومع الامتيازات الكبيرة للطلبة الملتحقين بالشركة الوطنية، حيث تم منحهم مكافأة شهرية تقدر بمبلغ 190 دينار إضافة للتسجيل في الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي وتوفير كافة المستلزمات مجانا مع ثلاث وجبات ساخنة يوميا طيلة فترة التدريب للملتحقين. مع التوقيع على عقد تشغيل إضافة للتدريب بين الشركة والملتحق فيها، أي أن الشركة التزمت لكافة المنتسبين إليها بتشغيلهم في مجال المقاولات. لهذا جعلت كلمة التشغيل تسبق كلمة التدريب في مسماها الشركة الوطنية للتشغيل والتدريب.
كان مسلسل الإنحدار للمؤسسة قد بدأت تتضح معالمه أكثر مع تأسيس الشركة الوطنية ودخولها على أكبر تسع مراكز فيها. وأصبح الخيار المنطقي والأول للطالب يتمثل بالالتحاق في الشركة الوطنية ولم تعد برامج المؤسسة من ضمن الخيارات المفضلة له. ولم تعد بيئة المؤسسة جاذبة للالتحاق فيها.
بعيدا عن تقييم أداء الشركة الوطنية التي تم الحد من صلاحياتها والتقليل من امتيازات الالتحاق بها، وبعيدا عن تقييم المؤشرات التي وضعتها لنفسها من أجل إنجازها وعبر امتداد السنوات من عام 2007- 2020 ، فإنه من المؤكد أن الشركة ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في زيادة الأعباء على المؤسسة من حيث أعداد الملتحقين بها ونسب التسرب فيها وجودة المخرج التدريبي لها. فلا يعقل أن يكون أداء طالب الشركة بالامتيازات التي يتحصل عليها، والتجهيزات والمرافق والتسهيلات التدريبية الغنية ، مثل أداء الطالب في المؤسسة والمحروم من أية امتيازات. كما لا يعقل أن يكون أداء المدرب في الشركة بالامتيازات التي يتحصل عليها مثل أداء المدرب في المؤسسة المتحصل على راتبه حسب سلم رواتب ديوان الخدمة المدنية.
كانت المؤسسة تأخذ صلاحياتها متفاوتة في عهد هذا الوزير أو ذاك، اعتمادا على درجة اهتمام واتجاهات الوزير نحو عمل المؤسسة. حتى أن أحد المدراء العامين قال أنه عند استلامه لإدارة المؤسسة وجد في أدراج مكتبه ما يمكن تسميته بإعلان الوفاة لمؤسسة التدريب المهني وبيعها للقطاع الخاص.
لقد خاضت المؤسسة تحديات كبيرة في ظل أن من يترأس مجلس إدارتها هو أول المحاربين لها، وهذه شكلت مفارقة إدارية غريبة. لأن المنطق يقول أن من هو على رأس أية إدارة يفترض فيه أن يكون أشرس المدافعين عنها.
وأصبحت المؤسسة حقل تجارب يتفاوت الاهتمام بها ما بين الشعارات البراقة التي تولي الاهتمام للتعليم والتدريب المهني، لكنها بنفس الوقت ترى في المؤسسة عائقا أمام تنفيذ مخططاتها وأجنداتها.
وراوحت المؤسسة بين غايات متعددة تبعا للحكومة وأولوياتها، فدخلت فكرة إعادة هيكلة المؤسسة التي تم رصد مبلغ من أموال المنح لها بقيمة سبعة ملايين دينار. لكن لم تتم الهيكلة نتيجة البيروقراطية الحكومية ونتيجة تغير الحسابات.
لم تحقق الشركة الوطنية الغايات الكبرى التي وضعتها لنفسها، ولم تبق مؤسسة التدريب المهني تؤدي أدوارها المعهودة. كذلك تبين المؤشرات أن كل المشاريع التدريبية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة لم تؤت ثمارها وتم هدر المبالغ المرصودة دون أية مخرجات ملموسة وفاعلة سواء في تحسين جودة وبيئة التدريب أو في مجال الحد من البطالة وتشغيل العاطلين عن العمل.
عاد الحديث بعد عام 2010 عن إعادة خدمة العلم بهيئة وكيفية جديدة تعمل على استيعاب الأعداد الهائلة من الشباب المتعطل عن العمل. لكن لم تخرج الفكرة إلى حيز التنفيذ إلا من خلال فوج واحد تم تدريبهم في معسكرات الجيش لمدة محدودة، وماتت الفكرة مرة أخرى.
ومع إحجام الحكومة عن التعيين على مدار سنوات، فقد تم تآكل الكادر الوظيفي وخاصة التدريبي في المؤسسة، ولم تعد المؤسسة قادرة على تلبية احتياجاتها الوظيفية من الكفاءات المهنية عالية الجودة، حيث أصبح التعيين يتم من خلال الأقدمية في الدور على قوائم الانتظار في ديوان الخدمة المدنية.
وصلنا إلى عام 2016 عندما تم وضع الخطة الوطنية لتنمية الموارد البشرية ( 16 – 25 ) وجاء المؤتمر التربوي الأردني الثاني وتوصياته ضمن محاور تطوير التعليم المهني ، كما جاءت دراسات وتقارير حالة البلاد التي يضعها المجلس الاقتصادي الاجتماعي الأردني. في كل ذلك، كان الحديث يؤكد على ضرورة إصلاح وتطوير قطاع التعليم والتدريب التقني والمهني.
فعلا بدأت مراجعات للخطط والاستراتيجيات ومنها استراتيجية التشغيل الوطني، استراتيجية الإرشاد والتوجيه المهني، خطة التدريب الالكتروني، وجاء الحديث الرئيس عن إيجاد مظلة مرجعية لكافة المعنيين بالتعليم والتدريب المهني والتشغيل والتمويل له، وكانت الفكرة أن يتم استحداث مؤسسة أو هيئة تعنى بالتعليم والتدريب المهني، يتم فيها تزاوج بين التعليم المهني في التربية والتدريب المهني في المؤسسة والشركة الوطنية، وفتح قنوات ومسارات مع الجامعات المعنية خاصة جامعة البلقاء التطبيقية وجامعة الطفيلة التقنية.
لكن ما تم إنجازه هو إقامة هيئة سميت بهيئة تنمية المهارات المهنية والتي أصبحت الخلف القانوني لكافة أعمال التعليم التقني والتدريب المهني، واتضحت ميول البعض لتشكيل هيئة أخرى خاصة بالتدريب المهني تضم الجهات الرسمية المعنية بالتدريب المهني مثل مؤسسة التدريب المهني والشركة الوطنية للتشغيل والتدريب وبرنامج خدمة وطن .
لقد أفشلت المؤسسة ولم تنجح الشركة الوطنية ولا المشاريع التدريبية التشغيلية، ولا البرامج على شاكلة برنامج خدمة وطن… ولو جاء السؤال : أين الخلل ؟ فالإجابة جاهزة بأن الخلل يكمن في الافتراض الخاطئ الأولي المتمثل بأن المؤسسة غير قادرة على مواكبة المتطلبات والمستجدات التدريبية لسوق العمل، إن المؤسسة بالرغم من كل الضعف المتعمد لها، ما زالت تمثل حجر الرحى للتدريب المهني الواسع الشامل المتنوع والملبي لحاجات العمل بكافة مجالاته وقطاعاته
وعليه فإن الإجراءات السليمة لغايات تطوير التدريب المتناغم مع التشغيل، تقوم على تقوية مؤسسة التدريب المهني وزيادة صلاحياتها وإمكاناتها التدريبية ، فهي البيئة الحاضنة المحترفة للتدريب والتي تستطيع احتواءوهضم واستيعاب أية تحولات أو تغييرات مطلوبة ومستهدفة لسوق العمل.
المطلوب :
1- إعادة النظر الجذرية في عمل هيئة تنمية المهارات وتحديد أدوارها بشكل موضوعي يخدم التدريب والتشغيل.
2- دمج مؤسسة التدريب المهني والشركة الوطنية للتشغيل والتدريب شريطة أن يتم ذلك بمراعاة نظام الشركة الوطنية الذي يمنحها موقفا ماليا وإداريا متقدما عن المؤسسة.
3- زيادة موازنة المؤسسة والشركة الوطنية بشكل واضح وهو ما يمكن توفيره من خلال المخصصات للتدريب في وزارة العمل والاتفاقيات مع الجهات الدولية المانحة وبدعم من مخصصات وزارة التخطيط للتدريب وغيرها.
4- إعادة برنامج خدمة وطن وأي برنامج آخر له علاقة بالتدريب إلى المؤسسة مع إعادة النظر في جدوى تلك البرامج.
5- الرغبة الجادة في مراجعة أفكار الدمج بين التعليم المهني في وزارة التربية والتعليم وبين التدريب المهني في المؤسسة ، وذلك يتم من خلال إعادة تحديد أدوار هيئة تنمية المهارات المهنية.
6- العمل الجاد على إنشاء المركز الوطني للتوجيه والإرشاد المهني بالاستهداء في الاستراتيجية الوطنية للتوجيه والإرشاد المهني.
7- إعادة النظر في آلية التعيين والرواتب للمدربين.
8- إيجاد مركز وطني لتدريب المدربين .
9- إيجاد مركز وطني للمناهج التدريبية .
10- التخفيف من فكرة الربط الصارمة بين التدريب والتشغيل .
11- إشاعة ثقافة تنظيمية مفعمة بالحوكمة الرشيدة .
12- إعادة هندسة العمليات في التعليم والتدريب والتشغيل.

اترك رد