ما لم يقله الملك عبد الله في مقابلته الثالثة مع دير شبيغل

100

فرح مرقه

توازي أهمية تصريحات جلالة الملك حول ضم الضفة الغربية لإسرائيل والتهديد عبرها بـ صدام مع الأردن، أهمية المنبر الذي تحدث منه الملك عبد الله الثاني، إذ اختار منبرا ألمانياً مهماً يتمثل بصحيفة دير شبيغل واسعة الانتشار ليتحدث لها للمرة الثالثة فقط منذ توليه سلطاته الدستورية عام 1999.
فهم أن تخرج هذه التصريحات من ألمانيا يمكنه أن يفسر الكثير من التفاصيل اللاحقة بما فيها رد الفعل الأمريكي، حيث برلين هي الدولة الوحيدة التي يحمل دستورها موادا تنصّ على حماية إسرائيل ووجودها، والصحيفة المذكورة واحدة من أكبر المدافعين عن الاسرائيليين في المانيا أيضاً.
المرتان السابقتان اللتان ظهر فيهما ملك الأردن مع دير شبيغل كانتا في عام 2007 وبالتزامن مع اطلاق الأردن لبرنامجه النووي وقبيل جولة مفاوضات جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين وحذّر فيها الملك من طرح الحل الأردني للقضية الفلسطينية (يمكن قراءتها هنا). قبل ذلك بعام أي في عام 2006 اجرى الملك أيضا مقابلة مع الصحيفة وتحدث عن الإرهاب ومقتل أبو مصعب الزرقاوي، واعتبر فيها أيضا ان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هما أساس الإشكالات في المنطقة (يمكن قراءتها هنا). بالمناسبة بالعودة للمقابلتان اللتان كان الفرق الزمني بينهما عام واحد فقط، يمكن رؤية كيف تغيرت النظرة الأردنية لكثير من التفاصيل في المنطقة، بما فيها العلاقة مع ايران والاخوان المسلمين.
معنى ذلك، ان عمان تتواجد عبر هذه الصحيفة تاريخيا في مفاصل أساسية لتعزيز العلاقة مع الأوروبيين، وتذكيرهم بدورهم تجاه عمان أيضا وليس فقط إسرائيل. الأهم هنا ان المفاصل المذكورة يعتبرها الملك أساسية في شرح سياسة اردنية جديدة، وفارقة في تقارب إضافي مع المانيا ولصالح علاقات أوسع مع بلاد المستشارة انجيلا ميركل وهنا من غير الضروري ان تكون معلنة.
إذن ماذا يضيف المنبر لروح وتفاصيل المقابلة؟، بالتحليل، يضيف بعدين أساسيين: الأول ان الأردن احتاج ان يوصل رسالته عبر شريك موثوق وهذا تأكيد ان المكانة الامريكية تراجعت بالنسبة لعمان، والا لكان عاهل البلاد تحدث عن الصدام في مقابلته على التلفزيون الأمريكي CBS قبل نحو شهر، أو حتى لكان قَبِل باستضافة أخرى عبر قناة أمريكية، وهذا دوما متاح. البعد الثاني: هو طلب واضح للأوروبيين للتدخل، ولعله تحذير أيضاً من ان المانيا نفسها قد تضطر لذلك اذا ما ذهب الإسرائيليون باتجاه ضم الضفة الغربية. الأهم من ذلك ان المنبر الألماني او الأوروبي يعني ان عمان لا تتصرف من زاوية رد الفعل وانما الفعل نفسه، وهذا ما يوضح كلام الملك عن ان الصدام ليس من باب التهديد او اثارة الإشكالات في المنطقة.
في التفاصيل المذكورة جميعا ومن حيث الصورة الإعلامية التي يحترف مستشارو ملك البلاد صناعتها من الواضح انهم نجحوا، وهنا قد يأتي رد الخارجية الامريكية الدبلوماسي حول ضرورة التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين على ضم الضفة الغربية موائما لذات الصورة المطلوب بنائها، ولكن سؤال المضمون (والحديث ليس عن مضمون الحوار وانما عن مضمون الخطوات الأردنية المطلوبة)، وسؤال التحالفات والعلاقات، يبدو اصعب بالاجابة عليه.
مع اخذ كل ما سبق بعين الاعتبار، يظهر ان عمان بدأت تدرك جيدا ان الأوروبيين وحدهم هم عمقها الاستراتيجي، خصوصا بعدما اتضحت النوايا الامريكية للقضية الفلسطينية من جهة، وسابقا أيضا بعدما أصبحت الإدارات الامريكية تمارس على الأردن ضغوطا كبيرة لصالح اجندتها ودون ترك هامش حركة للعاصمة الأردنية لا في محيطها ولا في قراراتها الاستراتيجية؛ وهنا العديد من الأمثلة ابتداء من توقيع اتفاقية الغاز الإسرائيلي (الخاسرة بالمعنى الاقتصادي والشعبي) وابتزاز الأردن بالمساعدات الامريكية، مرورا باغلاق بوابة التعاون بين عمان ودمشق وبالضرورة مع طهران، وليس انتهاء بصفقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلام والتي اكد رئيس الوزراء الأسبق السياسي المحنّك عبد الكريم الكباريتي في لقاء في حينه له مع رأي اليوم انها جاءت لتعزز الترانسفير وان الأردن سيتحول لوطن بديل بحكم واقعها الموضوعي.
الخطة نفسها حظيت بتوصيفات كثيرة لشخصيات عريقة عبر رأي اليوم أيضا: فرئيس الوزراء الأسبق والقطب في القانون الدولي عون الخصاونة اعتبرها دفن للقانون الدولي ، رافضا الخوض في شقها الاقتصادي باعتباره ثمن بخس لفلسطين التي ليست للبيع . لاحقا قال رئيس الوزراء الأسبق أيضا عبد الرؤوف الروابدة ان الخطة الامريكية الغت الوصاية الهاشمية وكبّلت الأردن بالديون. كان في السياق اراء متعددة إضافية استمعت اليها رأي اليوم من رؤساء وفاعلين في القضية ذاتها وبعضها لم يجد طريقه للنشر اثر جائحة كورونا الأخيرة، ولكن الأهم ان رأي اليوم لم تسمع ولو لرأي واحد يناصر الخطة الامريكية مهما اختلفت مشارب السياسيين في البلاد واتجاهاتهم السياسية والفكرية.
الأردن ممثلا بقيادته يدرك جيدا اليوم ان عمان امام مآزق تاريخي في العلاقة مع واشنطن، وهنا لا يكفي التلويح الجمهوري الأمريكي بقانون يطلب استعادة أحلام التميمي كورقة ضغط يخرجها الامريكيون كلما أرادوا الضغط على عمان، وقد لا يكفي أيضا التلويح الديمقراطي بالمقابل ببعض المساعدات ضمن مشروع مضاد، حيث لا بد ان عمان تدرك ان جزرة الديمقراطيين و عصا الجمهوريين، تهدفان لإيصال الأردن لذات النقطة حيث يقبل بضم أجزاء من الضفة الغربية التي هي أصلا أراضٍ أردنية وبدستور البلاد الذي لا يغيره بالطبع اعلان فك الارتباط عام 1988 باعتباره لا يحمل اكثر من صفة تنظيمية وإدارية.
نزع صفة أراضٍ اردنية عن الضفة الغربية لا يمكنه ان يحصل قانونيا الا بإقامة دولة فلسطينية على تلك الأراضي وبالتالي تتحلل عمان من جانب من مسؤولياتها عن الضفة من جهة، ويحفظ المجتمع الدولي ماء وجهه إزاء قراراته. أما ما دون ذلك فسيتحول التحرك الإسرائيلي لضم الضفة الغربية الى احتلال لاراضٍ اردنية وهو ما يلغي بكل الأحوال أي اتفاقية سلام مع محتلّ بحكم الواقع الموضوعي (وبالضرورة يلغي ما بُني عليها سواء ناقل البحرين او اتفاقية الغاز او غيرها) اكثر مما هو تهديد أو ورقة على طاولة التفاوض والبحث. هكذا يعود الإسرائيليون في الادبيات السياسية الأردنية الى موقع العدو وهو ما يعني انضمام عمان لنادي أعداء إسرائيل في المنطقة، ليصبح للاردن مكانا مشابها لسوريا صاحبة قضية الجولان المحتل.
يبدو السيناريو بهذه الصورة حاملا لتغييرات جذرية وكبيرة، ليس فقط على مستوى العلاقات الإسرائيلية الأردنية التي يقلل جنرالات تل ابيب بمعظمهم من حجمها مؤخرا ومن تأثيرها، ولكن أيضا على مستوى الاصطفافات العربية وهو ما لا تحتاجه المنطقة المشتعلة أصلا.
من هنا تراهن عمان على كون الأوروبيين بمعظمهم رافضين وبصورة واضحة لضم الضفة الغربية، لا بل ويقترحون عقوبات في حال تطبيق أي خطة ضم وللمفاجأة كان نواب بريطانيون اول من بادر باقتراح ذلك، ما يعني انه وخلافا لاحلام الإسرائيليين التي روى احدها المفكر الأردني عدنان أبو عودة سابقا امام رأي اليوم عن كون أوروبا هي عمق إسرائيل المبتغى. فمن بات لديه العمق الأوروبي فعلا اليوم هو عمّان أكثر من الإسرائيليين.
العمق الأوروبي يحتاج اكثر من لقاءات الصحف والتواصل والجهود الملكية وحدها، وهذا ملف تفتحه رأي اليوم لاحقا، ولكن المهم ان اتحاد الأوروبيين ممثلا بقوته الكبرى في برلين يناصر عمان وموقفها في هذا الملف، ومجاملة الملك لولي عهد أبو ظبي او ملك السعودية باعتبارهم يؤازرون الموقف الأردني قد لا يزيد عن جانب من الدبلوماسية تحديدا مع الدولتين المذكورتين.
يستطيع الأردن الرهان على أوروبا، ليس فقط في محاولة موازنة كفة تريد لها إدارة ترامب ان تميل تجاه الإسرائيليين على حساب عمان، ولكن حتى في إعادة موازنة الأردن ذاته الذي يعاني من وحدة شديدة في محيطه العربي (وهنا من المفيد الانتباه الى ان موقف الملك لم يظهر اي تنسيق مع مصر حتى في سياق ضم الضفة). هذا كله له ثمن، وعلى عمان ان تكون مستعدة لدفعه إذا ما فهمت درس السنوات الماضية جميعا جيدا.
راي اليوم

اترك رد