د محمد كامل القرعان
في البلدان الجادة والمتحضرة قانونيا واخلاقيا يمكن أن تكون حالات الفساد عند كبار الموظفين وسرعان ما يتم فضحهم ومحاسبتهم ، أما في البلدان النامية فإن الفساد قد يتوطن في بنية مؤسسات الدولة، ويظهر فيها على أشكال متعددة ابرزها الفساد الكبير وأبطاله مسؤولون كبار ورجال السياسة والاعمال والشركات، مجاله الحيوي المشروعات الكبرى والاستثمارية.
اما الفساد الصغير وهو الثاني فيعمل من خلال عدد من موظفي المؤسسات الحكومية ومجالهم الحيوي هنا يتمثل في التسيير اليومي للمعاملات أو تعطيلها، مقابل رشوة يسمونها “إكرامية” وهذا النوع من الفساد يجد بيئة حاضنة نموذجية في ظل الترهل البيروقراطي.
ومما لا خلاف عليه هو أن أهم أدوات مكافحة الفساد، وعي المجتمع وثقافته وهو العارف لحقوقه والمؤدي لواجباته وأيضا يأتي القضاء النزيه والإعلام الوطني الحر بالمرتبة الثانية . لكن حين يصل الفساد إلى فلك الإعلام في أية دولة يصبح الحديث عن مكافحة الفساد واهيا لا منفعة منه، بل وقد يصبح الإعلام محرضا وداعما للفساد فيبرز الفساد الإعلامي، المعزز لنهج ما والمتكسب على ظهر المصلحة العامة؟
وهنا يدور في خلد المجتمع سؤال، لماذا تحتاج الدول الى اعطاء مساحة كبيرة للاعلام؟ وما أثر تلك الحرية في تعزيز النهج المؤسسي ومكافحة الفساد؟ اسئلة كثيرة تحتاح الى الاجابة ومن المهم البحث فيها ؟ ولو قدر للاعلام والصحافة المسؤلة والوطنية الحرة النزيهة ان تنمتع بكامل حريتها ووصفها ، لقدر لها ان تشكل بالفعل حقيقة (سلطة رابعة ) كما يطلق عليها، ومقارنة بالدول الاوروبية فقد مثلت الصحافة وبما فيها المؤسسات الاعلامية الرسمية بادوارها المختلفة اداة حادة على رقاب الفاسدين والمفسدين ،ولعب دورا محوريا في الكشف عن زيف المشاريع واكاذيب صفقاتهم وافعالهم، لكن ما دامت السلطة الرابعة رهين المحبسين فهيهات ان تقوم بدورها، ولن تتامل منها لعب دور اكثر تاثيرا في المجتمع ؛ فمعظم القضايا التي فيها ترهل وتلكؤ تحل من خلال الصحافة، المهم اطلاق العنان للصحافة لمراقبة اداء كل السلطات ان كان لدى المؤسسة الرسمية الجدية في مكافحة الفساد والقضاء عليه.
وقد طالعنا كيف قامت الصحافة الامريكبة الحرة في كشف فساد الرئيس الامريكي في فضيحة ووترغيت عام 1968 بحق الرئيس ريتشارد نيكسون، وفي قضية التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت. فتفجرت أزمة سياسية هائلة وتوجهت أصابع الإتهام إلى الرئيس نيكسون. استقال على أثر ذلك الرئيس.
والمطلوب هنا تحديدا وفي هذا المجال اعلام وطني حقيقي لا يشوبه الفساد ولا يتواطأ مع الفاسدين والصففات المشبوهة ، اعلاما معتدلا متوازنا امينا على المجتمع وامينا على اداء رسالته بكل دقة بعيدا عن تشويه الحقائق وقلب السطور وحرق الاوراق وانتهاز الفرص واستغلال المكان والزمان. ويسجل للاعلام الوطني نظافته وادواره الكببرة التي قضاها في رحاب الوطن.
جميع هذه الأستفسارات مشروعة وتصب في مدى تحقيق نضوج المهنية والاحتراف وتنفيذ وسائل الإعلام ادوارها الرقابية باعتبارها وجيهة المجتمع والمتصدر للرأي و الدفاع عن مصالح الناس ، وتزداد أهمية في مدى حصانة وسائل الإعلام من الاختراق والفساد.
ما نحتاجه اليوم هو تأسيس الشخصية الصحافية من خلال التأهيل والتدريب على الأخلاقيات المهنية وقانون عصري يراعي الحرية المسؤولة ، ما يخول الصحافي والإعلامي تقدير متى يجب أن يعطي الخبر أو متى يحجبه، ما نحتاجه صحافة موضوعية وحرية مسؤولة لمكافحة الفساد.