منذ زمن بعيد كان قبر أبي الطيب المتني -مالئ الدنيا وشاغل الناس- مقصدا للأهالي الذين يزورونه في الأعياد، ويتوافد إليه شعراء العراق في كل عام لحضور فعاليات مهرجانه الشعري السنوي؛ لكن ضريح الشاعر الذي أثرى الأدب العربي وأمسى قامة ثقافية في فضاء التفرد الشعري، غاب عنه الشعر وطواه النسيان المرير، بعدما اختلط حابل السياسة بنابل الثقافة، وفشلت كل الوعود بتحويله إلى مركز ثقافي كبير يليق بالمتنبي شاعرا وتاريخا.
ولد المتنبي -واسمه أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الكندي الكوفي- عام 301 للهجرة في محلة كندة التابعة للكوفة (جنوب غرب العراق)، ولقي مصرعه على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي قرب موقع “دير العاقول” بقضاء النعمانية في محافظة واسط، التي تقيم هذا المهرجان تخليدا لذكرى الشاعر الكبير.
ويقام منذ عقود قرب ضريحه مهرجان سنوي يشارك فيه أبرز الأدباء والشعراء والنقاد العراقيين والعرب تخليدا للشاعر الكبير، الذي قُتل على أرض واسط ودفن فيها.
“إذا كان مقتل المتنبي على يد أحد الذين هجاهم في شعره، فإن الفاتكين الجدد قتلوه بجهلهم، لا بالسيوف هذه المرة” عبارة تختصر ما يجول في خاطر رئيس اتحاد الأدباء والكتاب في واسط طه الزرباطي الذي بدا منزعجا مما آل إليه واقع الثقافة في بلاد الرافدين.
ويعتقد الزرباطي بأن من يسميهم “صعاليك الحكومات المتعاقبة لا يمتلكون رؤى في الجانب الثقافي، ولا يعرفون معنى إقامة مهرجان شعري كمهرجان المتنبي يشارك في كل دورة من دوراته أكثر من 100 شاعر عراقي وعربي؛ لذلك أفشلوا مهرجان المتنبي وأوقفوه منذ عامين”.
وبينما يردد الأديب الواسطي أبياتا من رائية المتنبي
“وقل للشامتين بنا أفيقوا … فإن نوائب الدنيا تدور”
يتابع “نحن كاتحاد فرعي نعمل مع المعنيين في كل عام لإقامة المهرجان، ويستمر حراكنا عدة أشهر حتى يعطي أُكله؛ لكن آمالنا تذهب أدراج الرياح يوم يفرض علينا رأي ليس في محله من دون حوار شفاف كما حصل في آخر مهرجان قاطعناه؛ ليُقتل المتنبي ثانية على أيدي الفاتكين الجدد”.
وأرجع الزرباطي مقاطعة الاتحاد للمهرجان كنتيجة لما أسماه “إصرار الحكومة المحلية في واسط على اختيار شخصية مختلف عليها؛ لتحمل الدورة اسمها”. وأردف “شخصية المهرجان تسمى من قبل اتحاد الأدباء، وليس أي جهة غيره؛ لذلك قاطعنا المهرجان الذي مُني بفشل كبير بغياب أدباء العراق”.
وكان مهرجان المتنبي، الذي يحظى باهتمام الواسطيين، ينظم سنويا بدعم مشترك بين الحكومة المحلية ووزارة الثقافة العراقية؛ لكن تدخلات الساسة أفشلته، ولم ينظم منذ العام 2018.
ووفقا لما يقوله مدير البيت الثقافي في واسط، مناف سعدون العتابي، فإن مهرجان المتنبي الذي يحمل طابعا أدبيا، ويتضمن في كل عام جلسات شعرية ونقدية، فشل بسبب تدخل الحكومة المحلية ببعض التفاصيل الفنية، ما دعا وزارة الثقافة إلى الانسحاب من تنظيمه ودعمه؛ ليُترك المهرجان لمن أرادوا قتل المتنبي ثانية” بحسب وصفه.
وأشار العتابي إلى أن “ضريح المتنبي بحاجة إلى الكثير من المرافق الخدمية والعمرانية؛ لكن ما يمنع من ذلك عائدية الأرض المشيد عليها الضريح” كاشفا عن “محاولات حكومية حثيثة لاستملاكها، وإقامة صرح ثقافي كبير بجوار الضريح.”
يقول الشاعر الواسطي حيدر حاشوش أن أهل المدينة التي يقع فيها قبر الشاعر، يطلقون عليه اسم (أبو سورة) معتقدين أن المياه تسوّر الضريح، وتدور حوله حين إرواء الزرع دون أن تلامسه، ويؤكد أن الأهالي يتوافدون على الضريح بشكل دائم، ويشعلون حوله الشموع ويخضبون جدرانه بالحناء.
ويرى حاشوش أن مقاطعة الأدباء لمهرجان المتنبي 15 الذي أقيم عام 2018؛ كانت بسبب فرض حكومة واسط المحلية على تسمية دورته باسم شخصية ليس لها أي نتاج أدبي يذكر؛”لكن هذا الموقف لا يعني الطلاق” حسب قوله.
ويخلص الشاعر الواسطي في حديثه للجزيرة نت إلى أن “محاولات عديدة لإحياء المهرجان مرة أخرى؛ لكنها توقفت بسبب جائحة كورونا، التي أوقفت جميع الأنشطة الثقافية في البلاد”.
وكانت الدورة الأولى لمهرجان المتنبي قد بدأت قبل 4 عقود وتحديدا عام 1963، وشهد المهرجان انقطاعات طويلة خلال هذه السنوات، وأقامت وزارة الثقافة تمثالا كبيرا للمتنبي في باحة المكتبة الوطنية بباب المعظم (وسط بغداد) عام 1978، وتم طبع ديوان المتنبي من قبل الشؤون الثقافية التابعة لوزارة الثقافة عام 1981، ووزع على نطاق واسع في العراق والوطن العربي.
وكان ضريح المتنبي الذي شيد في أربعينيات القرن الماضي عبارة عن بناية من الطين؛ لكن بعد نقل ملكية الضريح من هيئة السياحة إلى هيئة الآثار في ثمانينيات القرن الماضي قامت الأخيرة ببناء الضريح مجددا من الطابوق والآجر.
من جانبه يقول قائم مقام قضاء النعمانية محمد عيدان الوائلي إن “الحكومة المحلية أعدت تصاميم هندسية مميزة للضريح شملت مختلف المرافق الحيوية؛ لكن نقص الأموال المخصصة هو الذي حال دون ذلك”.
ويفتقر الضريح، الذي بني على هيئة 6 أعمدة ارتفاع كل منها 13 مترا تلتقي في الأعلى، لتكوّن قبة من الأعلى أسفلها دائرة تطل على القبر، وفيها زخارف منقوشة، إلى “إدارة جيدة وعمال للخدمة” وفقا للوائلي الذي يبرر ذلك بعدم توفر الدرجات الوظيفية نتيجة الضائقة المالية.