بعدما خسر والده في انفجار المرفأ المروع، يعتزم الشاب إيلي الحصروتي تقديم شكوى قضائية ضد الدولة اللبنانية على غرار مئات المتضررين وعائلات ضحايا الفاجعة التي غيّرت وجه بيروت.
ومع علمه أن الشكوى لن تعيد إلى الحياة والده غسان، الموظف في غرفة التحكم في إهراءات القمح (صوامع القمح) منذ نحو 4 عقود، إلا أنه يرى أن تحقيق العدالة ضروري لمنع تكرار الكارثة.
ويقول المهندس الشاب لوكالة الصحافة الفرنسية “نخطط للتحرك قانونيا؛ لسبب بسيط، وهو أن ما جرى لا يخص الناس الذين غُدروا جراء الإهمال؛ بل يتعلق بنا نحن الباقين في هذا البلد والراغبين بالعيش فيه بكرامة”.
ويضيف “يجب أن تُحدّد المسؤوليات وكل سلوك أوصل إلى هذا الوضع، حتى تتم معالجته واتخاذ التدابير الكفيلة بردع أي تصرف مماثل في المستقبل”.
وكان والد إيلي في عداد أكثر من 190 شخص قتلوا جراء انفجار 4 أغسطس/آب في مرفأ بيروت، الذي تسبب أيضا بإصابة أكثر من 6500 شخص بجروح وشرد نحو 300 ألف من سكان بيروت ممن تضررت منازلهم ومؤسساتهم أو تدمرت.
وعزت السلطات ما جرى إلى تخزين كميات هائلة من نترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 منذ أكثر من 6 سنوات دون اتخاذ إجراءات وقائية.
وتصدرت مأساة عائلة الحصروتي وسائل الإعلام، بعدما بقي غسان في عداد المفقودين لأسبوعين، وعاشت أسرته فترة عصيبة إلى حين انتشال جثته من تحت الأنقاض.
وأثار الانفجار غضبا واسعا في لبنان، خصوصا بعد أن تبيّن أن مسؤولين على مستويات عدة، حكومية وقضائية وأمنية، كانوا على دراية بمخاطر تخزين مادة مماثلة في المرفأ.
لا انتقام
ويؤكد إيلي أن الشكوى لا تهدف بالدرجة الأولى إلى “الاقتصاص” من المسؤولين؛ بل إلى “معالجة الأسباب التي أودت إلى هذه المجزرة”، ويسأل “ما الفائدة -بالمفهوم القانوني- إذا حوكم من سيتبين أنهم مذنبون ولم تتغير طريقة الأداء” الرسمي؟
وتعد عائلة غسان الحصروتي واحدة من 1228 عائلة كلفت حتى الآن نقابة المحامين في بيروت تقديم شكاوى قانونية في قضية الانفجار.
وتتولى النقابة التدقيق في الملفات والتأكد من تضمنها المستندات اللازمة قبل توكيل محام لتقديم الشكوى إلى النيابة العامة التمييزية، أو لدى المحقق العدلي القاضي فادي صوان، الذي يتولى التحقيق في الانفجار.
ولا يمكن وفق القوانين اللبنانية تقديم شكوى جماعية باسم المتضررين؛ لذا سيتم رفع كل دعوى بشكل منفصل.
ويقول نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف الذي يقود جيشا من المحامين المتطوعين المكلفين بإعداد الملفات لوكالة الصحافة الفرنسية “أمام جريمة مأساوية من هذا النوع لا يمكن أن نبقى مكتوفي الأيدي.. أمام هذا الهول نحن طلاب عدالة، العدالة لكل الناس”.
ويضيف “نحاول أن نقول للناس لستم لوحدكم، نحن لا نطلب انتقاما بأي شكل من الأشكال.. لا نريد إلا العدالة، وهذا حق من الحقوق الأساسية للإنسان”.
وبدأت النقابة تتلقى الطلبات إثر الانفجار من العائلات المتضررة عبر 7 مراكز ميدانية أقامتها في الأحياء المنكوبة، تطوع فيها 400 محام، وفق خلف، ويتولى 200 محام آخرون تقديم المساعدة القانونية.
وتعاونت مع نقابة خبراء التخمين العقاري، التي تطوع 468 من خبرائها لتقييم الأضرار المادية التي لحقت بمقدمي الشكاوى.
على شاشة حاسوب كبيرة في مكتبه داخل غرفة العمليات في نقابة المحامين، يتابع المحامي علي جابر مراحل تقدم الملفات، سواء تلك التي ما زالت قيد الدرس أو تمّ التدقيق بها، ورفعها إلى خلف لتوكيل محام لمتابعة القضية مجانا.
وتهدف الدعاوى أمام القضاء بداية إلى “تحديد المسؤوليات”، وعند صدور الأحكام من المراجع المختصة يمكن للمدعين المطالبة عبر دعاوى أخرى بالتعويضات المناسبة، وفق ما يشرح جابر.
تحقيق بلا نتائج
وتُظهر إحصاءات يستعرضها عبر الشاشة كيفية توزع مقدمي الشكاوى. ويتبين أن نحو 82% منها مقدمة من أشخاص تضرروا ماديا، ويحل في المرتبة الثانية من لحقت بهم أضرار مادية وجسدية في آن معا بنسبة 7.49%، أما نسبة مقدمي الشكاوى ممن فقدوا أحد أفراد عائلاتهم فهي 1.12%.
وتحقق السلطات، التي رفضت إجراء أي تحقيق دولي، في أسباب الانفجار وملابساته، وشارك محققون فرنسيون وأميركيون في التحقيقات الأولية، إلا أنّه بعد 7 أسابيع من الانفجار لم تعلن السلطات نتائج أي من التحقيقات التي تجريها.
وتم حتى الآن توقيف 25 شخصا في القضية منهم كبار المسؤولين عن إدارة المرفأ وأمنه، بينما يستمع المحقق العدلي تباعا لمسؤولين سياسيين وأمنيين، بينهم وزراء تعاقبوا على الوزارات المعنية وقادة أجهزة أمنية.
واعتبرت منظمة العفو الدولية في تقرير نشرته بعد شهر من وقوع الانفجار “بات من الواضح على نحو متزايد أن الإجراءات التي اتخذتها السلطات اللبنانية.. ليست مستقلة ولا حيادية” مجددة دعوتها إلى “إنشاء آلية دولية لتقصي الحقائق لضمان حقوق الضحايا في الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة وإتاحة سبل الإنصاف”.
ويبدي لبنانيون كثر عدم ثقتهم باستقلالية القضاء، في بلد يقوم على منطق المحاصصة والتسويات وتسود فيه ثقافة الإفلات من العقاب، وغالبا ما يكون القضاة الذين ينظرون في قضايا كبرى عرضة لضغوط من قوى سياسية نافذة.