كتب الدكتور ماجد الخواجا
رواندا قصة في كيفية وأد الفرقة والتناحر الاجتماعي، لقد تحولت من دولة قبلية سادت فيها حملات الإبادة الجماعية إلى أقوى سابع دولة في العالم في النمو الاقتصادي. حقا إنها معجزة تروى.
رواندا وتعني بلد الألف تل أو جبل.. رواندا سنغافورة أفريقيا.. رواندا من بلد المجاعات والمجازر إلى أحد أسرع الاقتصادات في العالم.. رواندا من رماد الحرب إلى عالم الفضاء.. رواندا من الإبادة إلى الريادة المثالية.. رواندا من الحرب الأهلية إلى التنمية الشاملة الفعلية.. رواندا من أرض الموت إلى عاصمة اقتصاد القارة السمراء.. رواندا من بلد الفارين بأرواحهم إلى دولة تستقبل وترحب باللاجئين والمهاجرين.. رواندا من بلد الرعب والترويع إلى دولة جاذبة للسياحة وواجهة وقبلة السائحين الأولى.. رواندا من بلد التناحر القبلي إلى دولة التعايش والتعددية .. رواندا من أرض الإبادة إلى دولة العدالة الفعلية.. رواندا من بقايا دولة إلى معجزة.. رواندا فيها أكبر عدد من النساء في الحكومة والبرلمان.. رواندا أنظف بلد إفريقي
واقع الأمر لا توجد دولة فقيرة في هذا العالم، لكن يوجد فاسدون تولوا إدارة بعض الدول التي تُنعَت بأنها فقيرة، وقد ساعدت هذه الظروف هؤلاء المسؤولين على نهب الموارد الطبيعية وتحويلها إلى البنوك السويسرية والأمريكية، بعد أن اكتملت قصورهم في الوطن الأم، دون حسيب أو رقيب، وهنا تكمن الكارثة.
ووسط هذا العالم الذي تسوده الأنانية المفرطة، تظهر في الأفق تجارب ناجحة من قارتَيْ آسيا وأفريقيا، جديرة بدراستها والاطلاع عليها، ولعل أول هذه النماذج هي ( سنغافورة )، هذه الجزيرة الصغيرة التي استقلت عن بريطانيا في مطلع ستينيات القرن الماضي، وكانت دولةً فاشلة بكل المقاييس، إذ كانت تعج بالمستنقعات المائية الملوثة في شوارعها، وتنعدم فيها البنى الأساسية الحديثة، كالطرق، وشبكات الصرف الصحي، فضلًا عن الفساد المالي، وانتشار الرشاوى في السلك القضائي، وكذلك انعدام الموارد الطبيعية، فمعظم السكان الذين ينحدرون من أعراق مختلفة يعانون من الفقر والأمية، وتعود قصة نجاح سنغافورة إلى ( لي كوان يو) الذي تولى رئاسة الوزراء عام 1965م، ويلقب بالأب الروحي للأمة، إذ قام منذ الوهلة الأولى لرئاسته بالعمل على تطوير التعليم، وإطلاق وسائل إعلامية لمراقبة السلطة التنفيذية للكشف عن شبكات الفساد عبر الصفحات الأولى لهذه الصحف، ومع مرور الأيام تحولت هذه الجزيرة الصغيرة إلى واحدة من أهم المراكز التجارية والصناعية على مستوى العالم، حيث أصبح دخل الفرد السنوي 60 ألف دولار، وقد كسبت سنغافورة حربها على الفساد بتشكيل هيئة مستقلة لمحاربته، وكان أول مَنْ مَثُلَ أمام هذه الهيئة، هو رئيس الوزراء نفسه، والذي كشف ذمته المالية شخصيًّا، وكذلك كافة أفراد أسرته؛ كي يعطي درسًا للآخرين من أعضاء الحكومة في محاسبة الفساد. سنغافورة اليوم تحكمها امرأة مسلمة من أقلية في عدد السكان، لكنها حازت على ثقة الشعب الجدارة وصدق العمل وقبول المحاسبة والمساءلة.
أما التجربة الثانية فأتت من قلب القارة السمراء التي ينخر فيها الفساد، إذ كانت جمهورية ( رواندا) لا تملك ثروات طبيعية، ولا منفذًا على البحر، لكن تهيأ لها قائدٌ أمين عمل جاهدًا على اجتثاث الفساد والمفسدين، ويُدعَى ( بول كاغامه) الذي تولى الرئاسة في مطلع هذه الألفية، فقد أصدر قانونًا إجباريًّا يتم تطبيقه ميدانيًّا على خمسة آلاف مسؤول رواندي وعلائلاتهم، بما فيهم رئيس الجمهورية نفسه؛ وذلك بهدف الكشف عن حساباتهم البنكية وأملاكهم في الداخل والخارج، وتطبيق مبدأ من أين لك هذا؟ وبالفعل ذهب إلى حبل المشنقة بعض المسؤولين الذين نهبوا المال العام، ومن المفارقات العجيبة أن رواندا خرجت من أسوأ حرب أهلية في التاريخ؛ قتل فيها مليون مواطن رواندي في تسعينيات القرن الماضي، لكنها نهضت من مستنقع الإبادة الجماعية لتتحول إلى أفضل سوق مفتوح في أفريقيا، وبنموٍّ سنوي تجاوز أفضل الاقتصاديات في العالم، مسجلةً بذلك أكثر من ٨ %، كما أنها أطلقت قمرًا صناعيًّا في مجال الاتصالات؛ لتقديم خدمات الإنترنت مجانًا لكل المواطنين في هذا البلد الأفريقي الذي أصبح حديث العالم، ونموذجًا يُحتذَى به في العالم النامي.
رواندا نهضت من وحل التناحر القبلي وحمامات الدم العبثية وفتحت صفحات جديدة من التسامح ومن الإعلاء من قيمة وشأن الدولة الوطن.ز وأصبحت تدار كافة الشؤون فيها بشفافية حقيقية وستسود فيها الديمقراطية التي قبل بها الجميع من اجل إعادة بناء بلد أصبح في ذيل قائمة دول العالم في كل شيء… رواندا الآن تقدم أعظم قصة حضارية عن كيفية الخلاص من الأمراض الاجتماعية والانطلاق نحو الحضارة بقلب وعقل وإرادة جعلت منها دولة في مقدمة دول العالم القابلة للتطور والحداثة، مع أنها لا تمتلك موارد طبيعية كافية ، لكنها عملت بعزيمة صلبة لبناء البلد من كافة جوانبه، حيث التعليم والصحة والعمل والرفاهية، أصبحت كلها متقدمة ومتطورة بما يحقق متطلبات الحياة الكريمة حقا..