د.موسى شتيوي
الهجرة بين الشعوب ظاهرة إنسانية وتاريخية ازدادت وتيرتها مع تسارع العولمة وثورة المواصلات والاتصالات.
غالبية الذين يهاجرون يفعلون ذلك لأسباب اقتصادية، هجرة الكفاءات الأردنية بدأت بالستينيات وتعاظمت في السبعينيات مع الطفرة النفطية حيث كانت اغلب الهجرات باتجاه الدول النفطية التي كانت بتلك الفترة بحاجة للكفاءات في كافة المجالات.
الهجرة للخليج شكلت نمطاً خاصاً، فبالإضافة للرواتب المجزية، فهي تعتبر هجرة مؤقتة لأن العاملين الأجانب لا يحصلون على جنسية تلك البلدان، فغالبيتهم يعودون بعد التقاعد للأردن ويعيشون بها وينفقون الأموال بها سواء من خلال الاستثمار أو شراء الأرض والمساكن وغيرها.
لا شك ان التحويلات القادمة من هذه الدول شكلت رافداً مالياً واقتصادياً للدولة (العملة الصعبة) وأيضا للمجتمع وخاصة لأهل وأسر المهاجرين مما كان له الكثير من الإيجابيات والفوائد وما يزال.
ولكن بالمقابل، شكلت هذه الهجرة مع مرور الوقت نزيفاً واستنزافاً للكفاءات الأردنية، مقابل الفوائد والعوائد المالية، فان سوق العمل والاقتصاد الأردني يخسر هذه الكفاءات مما يؤدي إلى ظاهرة سلبية ثلاثية الأبعاد.
اولاً: فإن هذه الهجرة تحرم الاقتصاد الأردني من هذه الكفاءات التي تتمتع بإنتاجية عالية في البلدان التي تهاجر اليها، مقابل التحويلات المالية للمهاجرين، تتدنى الإنتاجية في سوق العمل الأردني وبالتالي فنحن نشهد ما نسميه الفرصة الضائعة والتي قد تفوق كثيرا قيمة التحويلات المالية للأردن، بعبارة أخرى، فان هذا النمط من الهجرة يساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في استمرار ضعف الاقتصاد الأردني.
ثانياً: تساهم هذه الهجرة في تدني المستويات التعليمية للعمالة في سوق العمل الأردني. حيث تشير البيانات إلى ان معدل التعليم للعمالة في سوق العمل الأردني، هو اقل من مستوى التعليم أو معدل التعليم بالمجتمع بشكل عام، واذا ما تم استثناء القطاع العام الذي يشترط الشهادة الجامعية الأولى على الأقل للعمل به، فان معدل التعليم ينخفض إلى درجات مقلقة في القطاع الخاص، ويساهم في هذه الظاهرة ان الأردن بالإضافة لكونه مصدراً للعمالة فهو ايضاً مستورد لها، وتشير الدراسات إلى ان العمال الأجانب يعملون بشكل رئيس في الأعمال منخفضة المهارات ومتدنية الأجور، وجزء كبير منهم تحصيله العلمي أساسي فما دون.
ثالثاً: ان هجرة الكفاءات تؤدي إلى ظاهرة الاستثمار المهدور حيث تنفق الدولة والمجتمع أموالاً طائلة على التكوين العلمي والاكاديمي للطلبة ثم يهاجرون للعمل بالخارج حيث تستفيد الدول من كفاءاتهم دون أي تكلفة بينما لا يعود استثمارنا بتعليمهم بأي فائدة للدولة والمجتمع.
بالسابق كانت تكاد تقتصر هجرة الكفاءات على دول الخليج ولكن اليوم بدأت تظهر أنماط من الهجرة للدول الأوروبية والولايات المتحدة وبالغالب فان هؤلاء لا يعودون لبلادهم ولا يحولون أموالهم للأردن بل يستثمرونها حيث هم لانهم يحصلون على جنسيات تلك البلدان بعد فترة.
كما ذكرت سابقاً فان الهجرة الطوعية هي ظاهرة إنسانية وحق للناس لا نستطيع ان نجبرهم على عدم ممارسته ولكن الدراسات تشير إلى ان اكثر من 85 % يهاجرون لأسباب اقتصادية لذا المسألة تحتاج لإعاده النظر. هناك بعض المؤشرات غير رسمية تشير إلى ان اكثر من 40 % من خريجي طلبة الطب بالجامعات الأردنية ينتهي بهم المطاف خارج البلد كذلك بعض التخصصات الأخرى عالية المهارات.
ان هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر المرتبطة بها بحاجة إلى إعادة التفكير في كيفية تحفيز الاقتصاد ومعالجة ظاهرة البطالة. الاستثمار الخارجي لا يساهم في استقطاب وتطوير المهارات وتكوينها بالأردن لأن جزءاً كبيراً منه يذهب إلى قطاعات السياحة والأراضي والجزء الثاني يأتي للأردن للعمالة الرخيصة وينتهي به المطاف يشغل عمالة غير اردنية.
أنا لست ضد الاستثمار الأجنبي ولكن طاقاتنا مستخدمة لتشجيع الاستثمار الأجنبي ولا نبذل الجهد الكافي للاستثمار بأهم ميزة تتمتع بها الأردن وهي الموارد البشرية. نحن بحاجة لمقاربة جديدة في كيفية تحفيز الاقتصاد الأردني خاصة ونحن على أعتاب المئوية الثانية فقد لا تحتاج ان نذهب بعيدا فثروتنا هي مواردنا البشرية.