كتب عامر طهبوب :
قضيت يوم الاحتفال بالمئوية متسمراً أمام شاشة التلفزيون الأردني، أتابع تغطيته، واستمع إلى ضيوف من رجالات الدولة، أستعرض الأسماء، وأحلل المضامين، وأتوقف عند الأسئلة ومحاور النقاش، فكانت جلها تصب في بحر الإنجازات، وتعظم المسيرة، والحقيقة؛ بشكل وصل إلى حد حديث أحد الضيوف عن إسهامات علماء أردنيين في وكالة الفضاء الأميركية “ناسا”، ولم يتحدث أحدهم عن أي من القصور أو السلبيات، أو التحديات والتمنيات إلا على استحياء .
قصة “ناسا” أصبحت “حدوتة” العرب، فوجود العالم فاروق الباز في تلك المؤسسة، أو عمل عصام حجي في معمل محركات الدفع الصاروخي، لا يعني “تمصير” وكالة الفضاء، ووجود عالم أردني فيها، لا يعني أن الأردن وصل القمر، وإدارة شارل العشي لمختبر الدفع النفاث، لن يدفع بعجلة الاقتصاد في لبنان، كما أن إسهامات لطفي عياد، لن تحرر شبراً واحداً من فلسطين، وإسهامات الإعلاميين الأردنيين في محطات تلفزيونية عربية ذات مشاهدة عالية، لا يعني تطور الإعلام الأردني، وقس على ذلك التعليم والصحة، ولذلك فإن الحديث عن الإنجاز، يجب أن لا يتجاوز حدود “شطحة الخيال”، لأن الأمانة تكمن في وضع كل شيء في مكانه، لا يُنتقَص حق، ولا يُجمّل واقع فيه من المسرات ما فيه من المُلمّات، ويتوجب فيه المراجعة إلى جانب الاحتفاء، نُعظّم ما تم إنجازه، ونراجع المسيرة لضمان تصويب مساراتها، وتقديم الحلول لمشكلات قائمة، بعضها مستفحل .
كنت أسائل نفسي إذن: هل هذا الخطاب الإعلامي، قادر على القيام بتحديات المئوية الثانية التي لن تقل، بل ستزيد عن ما واجهته الدولة الأردنية خلال المائة الأولى – وإذا سأل أحدهم لماذا تزيد، أقول: أنظر حولك، وشاهد حجم المتغيرات والتحديات التي تواجهها الدول بعامة، أنظر إلى انكماش اقتصادات العالم، انحسار الموارد، تراجع المداخيل، تباطؤ النمو، الصراع على المياه، الدول الفاشلة، الحروب الأهلية، تهديدات إسرائيل، استهداف الأردن، تزايد السكان، تراجع نوعية التعليم، تزايد نسب البطالة، انتشار الأوبئة، وغير ذلك كثير، ثم قرر – هل هذا الإعلام قادر على مواجهة تحديات مئوية ثانية بصورته القائمة؟ الجواب بلا تردد أو وجل : لا، إنه لا يصلح على صورته وفعله القائمين من القيام بالدور الذي يجب على الإعلام الوطني القيام به، وكنت أتمنى أن يتم تقسيم الفترة إلى نصفين، الأول للحديث عن المنجزات، والثاني للحديث عن التحديات والآمال، وكنت أتمنى أن يستضاف شباناً وشابات، لسؤالهم عن شكل الأردن الذي يتخيلونه في أذهانهم، والصورة التي يودون رؤيتها للوطن في مستقبل الأيام.
وفي مشهد آخر تابعت الزيارة التي قام بها جلالة الملك وولي العهد حفظهما الله إلى صرح الشهيد، حيث أنعم جلالته على كل شهدائنا الأبرار، بوسام مئوية الدولة، وارتفعت أعلام على السواري بعدد الشهداء الراحلين في شكل هندسي فائق الجمال والدقة، في حين فشلت أمانة عمان في حمل مسيرة العلم بشكل لائق وملفت للنظر، – الحقيقة أنه كان ملفتاً للنظر بما سببه المشهد من انزعاج الأعين – فساءلت نفسي مرة أخرى: لماذا نجحت مؤسسة الجيش، وتفوقت في أدائها ومنجزاتها، وفي تطورها ومساهماتها في مسيرة الدولة، أكثر من أي مؤسسة أخرى، ولا أتحدث هنا عن معاني البسالة والشجاعة والرجولة والإقدام والتضحية والفداء، وهي معانٍ لا غبار عليها، لا ، لا، أنا أتحدث عن الجيش كمؤسسة من مؤسسات الدولة، وإن كانت عسكرية.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، وفي سياق الحديث عن الشباب، فقد سئل السياسي والدبلوماسي الجزائري المعروف الأخضر الإبراهيمي عن سبب الفوضى التي حلت بالجزائر، وما قادته من عنف في “العشرية”، فقال إن من بين أبرز الأسباب هو أن جبهة التحرير الوطني التي كان ينتمي إليها، ظلت مسكونة بالحديث عن أمجادها وبطولاتها في حرب التحرير لسنوات طويلة، ظهر خلالها جيل جزائري جديد، لم يكن معنياً ببطولات بن بيلا، وبوضياف، وبومدين، وبوتفليقة، وغيرهم من أبطال الثورة، بقدر ما كان معنياً بالبحث عن مستقبله، وباختصار، فقد قال الرجل إن حزب جبهة التحرير، كان يوجه خطابات لا يستمع إليها الشباب الذين يجلسون على المقاهي، ولم يكن الحزب يعرف كيف يفكر الشباب، فقد كان بعيداً عن تفكيرهم وحاجاتهم وتطلعاتهم، وهذا ما يسمى بعلم الاجتماع وعلم الإعلام “رجع الصدى”، ومن هنا نشأت الفجوة، الفجوة بين خطابات رجال الدولة، وحاجات الشباب وتطلعاتهم، ومعرفة كيف يفكرون، وأتمنى على صاحب السمو الأمير حسين، أن يقود حواراً معمقاً، ومستمراً مع مختلف قطاعات الشباب، والسماح بتصادم الأفكار الذي يولد نورا”، فسموه شاب متنور، سيفهم لغتهم، ويفهمونه، وربما يصار إلى تأسيس ملتقى للحوار تحت ما أقترح تسميته: “ملتقى شباب من أجل الأردن” .
الأردن لا يعاني من قلة الموارد، بقدر ما يعاني من قلة إدارة الموارد، وهو لا يعاني من قلة الإمكانات قدر معاناته من اكتشاف الإمكانات وتوظيفها في خدمة التنمية، واستخدام العقول، وتفعيل إدارة العقول، لأن نفط الأردن هو عقول أبنائه، ولكن هذا المورد الكبير ما زال عملاقاً نائماً، لم يحسن الأردن بعد تشغيله على الصورة الأفضل.
ولأن الإنجاز الكبير هو مجموعة إنجازات صغيرة، فعندما تأسس بنك الكويت الوطني عام ١٩٥٢ تحت إدارة بريطانية، استمر بنمو موجوداته حتى عام ١٩٧٠ دون أن يمتلك القدرة القصوى على إدارة موجوداته وعملياته، فاستعان بشركة “ماكنزي” الأميركية لدراسة الخلل، التي بين تقريرها سُبات بنك أطلق عليه بالفعل لقب العملاق النائم، وعندما عرف السبب، أخذ في التطور ليصبح أكبر البنوك في المنطقة العربية، وشارك في تأسيس بنك دبي الوطني وساهم فيه بنسبة ٢٥٪ قبل أن يندمج دبي الوطني لاحقاً ببنك الإمارات، ويعاد تسميته ببنك الإمارات دبي الوطني، ويصبح العملاق الأكبر.
ولم أورد المثل السابق إلا للإشارة إلى مسألة إدارة الموارد، ومعرفة مواطن الخلل، وليس التطرق إلى التدفق المالي والمقومات الاقتصادية، الشقيقة ليبيا تمتلك أجود أنواع النفط في الشرق الأوسط، في بلد مترامي الأطراف، تقابل شواطئ بحره أوروبا، لعدد سكان محدود، ولم تعرف الدولة كيف تدير هذه المقدرات العظيمة، بسبب سوء إدارة الدولة والفساد في حقبة القذافي، لكن فقدانها للأمن والاقتتال في ما بعد القذافي، حرمها أيضاً من استغلال هذه الموارد، فالذهب يذهب جفاء أيضاً عندما تسود الفوضى، وتهرب رؤوس الأموال.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإمارة دبي لم تتطور إلى هذا المستوى المتميز من مداخيل نفط، وإنما بصناعة الخدمات، وتقديم التسهيلات، وعقد الشراكات، وخلق الحوافز للمستثمرين، وتنشيط الاستيراد وإعادة التصدير، والتفوق في إدارة كل منجز، وكل مؤسسة، وتفعيل نظم الرقابة والمحاسبة والمكافأة، فأصبحت نقطة جذب عالمية للمستثمر والسائح.
لا تقل مقدرات دبي عن ما يمتلكه الأردن من مقدرات، لا تقل أبداً، ومشكلة الأردن الكأداء هي الثبات عند “تابوهات”، وصور نمطية ثابتة من التفكير، وإبقاء الحال على ما هو عليه، لأن رياح التغيير إذا هبت، ستؤثر سلباً على مجموعات اقتصادية كانت أم سياسية، تعتمد في مصالحها على مواجهة التغيير، ورفض أي فكر جديد يمكن أن يمس مكتسباتها، ليظل هذا العملاق نائماً، أو شبه نائم، لكني إيماني وفهمي العميقين يهمسان دوماً في أذني: الأردن غني، غني بقيادته، وغني بموقعه، وغني بشبابه وشاباته، وعقول أبنائه، وغني باعتداله، واعتدال طقسه، وغني بمواقعه الأثرية والسياحية، وغني بما يكفل له أن يجعل من التعليم والصحة إذا ما تم إصلاحهما، مورداً للدخل الوطني، وغني بأرضه إذا ما توقف استمرار الاعتداء على الأراضي الخصبة، وزادت نسبة الاستصلاح، وتحولت الزراعة إلى صناعة متطورة قادرة على المنافسة في الأسواق الخارجية، وغني بتسامحه، ومؤسساته الوطنية، وتاريخه العميق، وهويته الوطنية، وتضحياته، ومواقفه القومية، وغني بإرثه، وغني بسمعته على كافة الصعد.
باختصار، الأردن عملاق نائم، مقدراته أكبر من حلمه، وآن الأوان أن يصحو، وأول الصحوة فنجان قهوة، وقول ما يجب أن يقال في آخر الكلام، آن الأوان للاعتماد على النفس، على كل ما لدى البلاد من مقدرات، على استخدامها بأقصى الحدود، وبذل عمل جاد لاكتشاف من جديد ما لديه، ولن يرى ما لديه، وما هو قادر على فعله، وما ينقصه وهو متوفر لديه، إلا إذا تغيرت زاوية الرؤيا، وتغيرت وتبدلت طريقة التفكير، واستمعنا إلى نبض الجيل الجديد.
ونستون تشرتشل استقل “المترو” في لندن والحرب العالمية الثانية مشتعلة، وهو في طريقه إلى اجتماع في “١٠ داوننغ ستريت”، جلس إلى الناس، وتحدث معهم، وتحسس نبضهم، وذهب إلى الحكومة وقد غير رأيه، قالوا له: كيف تغير رأيك؟ فأجابهم: العظماء الذين يحققون إنجازات عظيمة، هم الذين يغيرون رأيهم.