الأردن اليوم :
على وقع ألحان أغنية تتغنى كلماتها بسوريا، يصوّر عناصر يرتدون زيًا عسكريًا لقوات النظام السوري أنفسهم في سيارة خاصة ترافق آلية أخرى تحمل جثثًا إلى مثواها الأخير الذي ستُدفن فيه حرقًا.
تتوقف الآليتان، اللتان تحملان لوحات باسم درعا، على حاجز وُضعت على ناصيته لافتة تحمل عبارة “قف- الشرطة”، ليلتقي من كانوا يستقلونها بعناصر موجودين عند الحاجز العسكري مدججين بالسلاح.
تجول عدسة الكاميرا على وجوه بعض العناصر لتلتقطها بشكل واضح، وتظهر لاحقًا وجود الجثث في الآلية، التي تُنقل خلال الدقائق اللاحقة إلى أرض خاوية إلا من حفرة تحوي جثثًا أخرى وأغصانًا خضراء، ومركبات تحيط بها، وعساكر على حافتها يسكبون وقودًا على جثث أخرى قبل رميها وإشعال النار بها.
هذه المشاهد وثّقها تسجيل مصوّر نشره موقع “زمان الوصل” المحلي، في 12 من آب الحالي، لعناصر من “المخابرات العسكرية” و”الجوية” خلال إحراقهم جثث معتقلين بين عامي 2011 و2013، في إحدى المناطق الصحراوية التابعة لريف درعا، بمساعدة عناصر تابعين لقوات النظام السوري.
وضع التسجيل المنشور قضية المعتقلين ومصير جثثهم بعد التأكد من موتهم موضع تساؤل، وأعادها إلى الواجهة في ظل سعي المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني، وتعهد أطراف دولية من بينها الولايات المتحدة وكندا وهولندا، بدعم محاسبة النظام على الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري، التي ترقى إلى مستوى “جرائم حرب”.
في هذا الملف،ناقش موقع عنب بلدي أسباب لجوء النظام السوري إلى إحراق جثث ضحايا الحرب من مدنيين في إطار الحرب السورية ومعتقلين في سجونه، وتبحث مع مختصين قانونيين في آليات المحاسبة الممكنة لمعاقبة الضالعين.
انتقام وإخفاء للأدلة
دوافع عديدة لحرق الجثث
يعيد المقطع الذي تداولته وسائل إعلام محلية تسليط الضوء على عمليات إحراق قوات النظام معارضين له أحياء أو إحراقه جثث معتقلين في سجونه ومختفين قسرًا، في حالات وثقتها منظمات حقوقية.
وأُحرقت جثث الضحايا في محيط ناحية المسمية شمال غربي درعا، وهي منطقة شبه صحراوية تتداخل فيها الحدود الإدارية لكل من محافظات درعا ودمشق والسويداء، بحسب ما أورده موقع “زمان الوصل” في تقريره.
ووثق الموقع ضلوع رائد منحدر من إحدى قرى جبلة بمحافظة اللاذقية تابع لمرتبات “الأمن العسكري”، ومساعد منحدر من إحدى قرى السلمية بمحافظة حماة، مشيرة إلى أنها تتحفظ على ذكر اسميهما الصريحين خدمة لأي تحقيق قضائي في هذا الملف.
وفي حديث إلى عنب بلدي، قال مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، إن المعلومات حول المقطع المصوّر غير كافية، لكنه قد يكون لأشخاص اعتُقلوا من أحد حواجز الميليشيات لبضع ساعات، ثم قُتلوا، ثم أُحرقت جثثهم لـ”التشفي والتفاخر”.
وبناء على المعطيات التي أُخذت من حوادث مشابهة، وُجدت في الفترة ما بين 2012 و2013، حواجز لميليشيات محلية تحمل سمة طائفية، 85% منها من الطائفة العلوية.
وتمارس الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري عمليات تعذيب وتجويع للمعتقلين داخل المعتقل، بالإضافة إلى ممارسات “متوحشة”، لكن حرق الجثث فعل لا تقول به، على الرغم من كونها أجهزة فئوية طائفية، بحسب عبد الغني.
وأوضح أن الأدلة حول إحراق النظام جثث المعتقلين بدل دفنهم غير كافية، إذ توجد بعض المعلومات لكن ليست هناك أدلة أو معلومات أو صور من شهود أو أشخاص انشقوا عن النظام تثبت هذه الممارسات.
وبيّن عبد الغني أن لا آثار تعذيب أو ضرب تظهر على الجثث في المقطع المصوّر، ما يعني استبعاد احتمال كونهم معتقلين، لكن توجد آثار طلقات رصاص في الجبهة والصدر ما يعني أن الأشخاص قُتلوا وحُرقت جثثهم بعد ذلك.
الدوافع ذاتها لحوادث سابقة
استخدمت قوات النظام والميليشيات المحلية والأجنبية التي تقاتل إلى جانبها سياسة حرق البشر وهم أحياء حتى الموت، إضافة إلى حرق جثث الأشخاص بعد إعدامهم، بشكل كبير، منذ بدء الاحتجاجات الشعبية في سوريا عام 2011.
وصعّدت هذه القوات من عمليات الحرق بشكل كبير خلال عام 2012، وتواصلت هذه الأحداث على مدار الأعوام اللاحقة، بحسب تقرير لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان” صادر في شباط 2015.
وتظهر الإحصائيات، بحسب التقرير، أن استخدام قوات النظام طريقة القتل حرقًا أو حرق الجثث بعد القتل هي سياسة ممنهجة اتبعتها هذه القوات، ترافقت مع الكثير من المجازر.
وقال التقرير، إن قوات النظام قامت بعمليات واسعة جرى فيها إحراق للجثث بعد قتل أو ذبح أصحابها، إما زيادة في التشفي أو الانتقام، وإما لردع وإرهاب المجتمع المحلي، وإما من أجل إخفاء معالم الجثث والضحايا، وبالتالي إخفاء الجريمة.
وجرت حالات حرق لنساء بعد أن مورست بحقهن عمليات اعتداء جنسي.
وأضاف أن عمليات حرق الجثث كانت تتم إما في صورة الحالات الفردية، وإما أنها، كما بدا في العديد من الحالات، كانت تتم بشكل جماعي وعلى خلفيات انتقامية ذات طابع طائفي.
وترافقت الكثير من عمليات حرق الجثث مع المجازر التي تحمل صبغة طائفية وارتُكبت من قبل ميليشيات محلية وأجنبية بالتنسيق والتعاون مع قوات النظام.
سياسة ممنهجة ضد المعارضين
لا يعتقد الأستاذ في القانون الدولي بجامعة “ماردين” التركية وسام العكلة، أن هذه الأعمال فردية، ولكنها تأتي ضمن سياسة ممنهجة اتبعها النظام منذ انطلاق الحراك الشعبي في سوريا تحت شعار “الأسد أو نحرق البلد”.
وتُعتبر هذه الأفعال جزءًا من المعركة بالنسبة للنظام، بحسب ما قاله العكلة لعنب بلدي، الهدف منها بث الرعب وتخويف الطرف الآخر، وهي سياسة مجردة من أي وازع قانوني أو أخلاقي أو اجتماعي أو ديني أو حتى حضاري، وتتعارض مع القوانين والأعراف الدولية وحتى الاجتماعية والدينية التي تقول إن “إكرام الميت دفنه” وإن كان عدوًا.
وأضاف العكلة أن حرق الجثث تصرف “همجي” يعكس حالة العجز والانهزام والعنف الغريزي الذي تحمله قوات النظام ضد كل من وقف إلى جانب الثورة.
ويرى العكلة أن إقدام قوات النظام على حرق جثث الضحايا هو محاولة لطمس أي دليل على الجرائم التي ارتكبتها ضد المواطنين السوريين، خاصة أن أغلب الجثث تعود لمختفين قسرًا لا يعلم ذووهم أي معلومات عن أماكن اعتقالهم أو الجهة التي اعتقلتهم.
هل يمكن التعرف على الجثة بعد حرقها
لطالما أخفى النظام السوري جثث المعتقلين في سجونه عن ذويهم، إذ لم يتسلّم معظمهم جثث أقاربهم، وعلموا أيضًا بنبأ وفاتهم بعد مرور فترات على الوفاة إما عن طريق المصادفة وإما بإبلاغ أعداد قليلة منهم بالخبر عن طريق دوائر النفوس.
ويُصدر النظام شهادات الوفاة الخاصة بالمعتقلين في سجونه، معنونًا إياها بأحد سببين قلما يكون لهما ثالث، إذ يغيّر بين “توقف قلب وتنفس” و”سكتة دماغية”، دون ذكر تفاصيل إضافية قد تضع ذويه في صورة ما عاشه فقيدهم قبل موته.
وما أكد ذلك أيضًا، تسلّم كثيرين شهادات وفاة كُتبت عليها الأسباب السابقة كمسبب للوفاة، ولكن مع ظهور عشرات آلاف الصور التي سربها “قيصر” (وهو لقب أُطلق على عسكري سوري سابق منشق عن النظام، سرّب صورًا لضحايا التعذيب من المدنيين السوريين)، قاطع ذوو بعض المعتقلين صورًا لأقربائهم تظهر آثار تعذيب وتنكيل بأجسادهم تشرح حالهم قبل الوفاة.
الخبير الجنائي المحلّف والعامل في دائرة الطب الشرعي في مدينة اعزاز بريف حلب الطبيب محمد كحيل، أكد أن معظم حالات الوفاة الناتجة عن التعذيب في سجون النظام، أو القتل العمد، سُجلت في سوريا بسبب “توقف قلب وتنفس”، مشيرًا إلى أن سبب اللجوء لذلك أن النظام “يسعى بقدر ما يستطيع إلى إخفاء جرائمه”.
وعند حرق الجثة بشكل كامل تختفي كل المعالم والآثار التي حدثت في أثناء أو قبل الوفاة على الجسم من تعذيب وتعنيف أو قتل من ذبح أو آثار استهداف بالرصاص المباشر، وذلك لاختفاء العضلات والأوردة والأوعية الدموية والأحشاء، بحسب ما أوضحه كحيل.
وأضاف الطبيب في حديثه إلى عنب بلدي، أن تعرض الجسم لحرق كامل خاصة باستخدام مواد لها قابلية اشتعال سريعة يؤدي إلى تغير كبير في شكل بنية الجثة خلال فترة قصيرة قد لا تتجاوز ساعة واحدة.
وحول إمكانية التعرف على صاحب الجثة، قال الخبير الجنائي، إن للحروق درجات، في أخف درجة منها يمكن التعرف على هوية الجثة “بصعوبة” عبر عدة دلالات ما زالت موجودة في الجسم منها بصمة الأسنان.
ولكن عند حالات الحرق المتعمد والمقصود لإخفاء معالم الجريمة، “يكاد يكون التعرف على هوية الجثة مستحيلًا”، إلا عند وجود مختبرات عالية التقنية والدقة عبر فحص الحمض النووي للجثة، “في حال عدم تحول الجثة إلى رماد”، وفقًا لما شرحه الخبير.
وتنص المادة “130” من اتفاقية “جنيف” التي أُقرت عام 1949، بهدف حماية المدنيين في أوقات الحرب، على أنه يجب على السلطات الفاعلة أن تتحقق من أن المعتقلين الذين يتوفون في أثناء الاعتقال يُدفنون باحترام، وإذا أمكن طبقًا لشعائر دينهم، وأن مقابرهم تُحترم وتُصان بشكل مناسب، وتُميّز بطريقة تمكّن من الاستدلال عليها دائمًا.
كما تنص على ضرورة أن يدفن المعتقلون المتوفون في مقابر فردية، إلا إذا اقتضت ظروف قهرية استخدام مقابر جماعية، ولا يجوز التمثيل بالجثث وأشلائها، كما يمنع حرقها إلا لأسباب صحية حتمية أو إذا جاء ذلك تنفيذًا لرغبة الميت الصريحة.
وفي حالة حرق الجثث يجب التوضيح مع ذكر الأسباب التي دعت إلى ذلك في شهادة وفاة الشخص المقتول، وتحتفظ السلطات الحاجزة بالرماد، وترسله بأسرع ما يمكن إلى أقارب المتوفى إذا طلبوا ذلك.
مساءلة معطلة
تحريك قضية حرق الجثث بيد المنظمات الدولية
شاركت صور جثث المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في سجون النظام التي سرّبها المصوّر العسكري المنشق الملقب بـ”قيصر” كأدلة في المحاكمات التي تجري في ألمانيا لضباط كانوا في صفوف النظام.
ويستفيد السوريون من الدول التي تعتمد نظام “الولاية القضائية العالمية”، ومنها ألمانيا والسويد، وهذا يعني ملاحقة ومحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية أينما كانوا وأينما كانت جرائمهم، أما في الدول التي لا تعتمد هذا النظام القضائي فالملاحقة أضيق بكثير.
في تقريره المفصل، أوضح موقع “زمان الوصل” أنه يضع المقطع المصوّر الذي يظهر حرق الجثث كـ”بلاغ رسمي” بين أيدي القوى الفاعلة في العالم ليفتح الباب أمام ملاحقة الضالعين ويكون دليلًا لمحاسبتهم، كما استُخدمت صور “قيصر” كدليل في محاكمات ضباط تابعين للنظام في أوروبا.
محليًا.. عقوبة مخففة
في سوريا، تنص المادة “468” من قانون العقوبات على معاقبة بالحبس التكديري وبالغرامة لمن يقدمون على دفن ميت أو حرق جثة دون مراعاة الأصول القانونية أو يخالفون بأي صورة كانت القوانين والأنظمة المتعلقة بالدفن أو الحرق.
وإذا وقع الفعل بقصد إخفاء الموت أو الولادة كانت العقوبة من شهرين إلى سنتين.
حقوقي مطّلع مقيم في دمشق قال لعنب بلدي، إن العقوبة وفق القانون السوري مخففة لفعل كهذا، على الرغم من كونه جريمة حرب، لأن إعدام هؤلاء الأشخاص جرى خارج إطار القانون.
وأوضح القانوني (تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه لأسباب أمنية) أن المساءلة في سوريا غير ممكنة، ويبقى التعويل على المساءلة الدولية كما يجري في العديد من الدول الأوروبية، لذلك يجب نشر صور الضالعين وتوثيق أسمائهم ليتم التعرف عليهم، فالتشهير بالقتلة وفضحهم “يحرجهم كثيرًا”.
ويرى رئيس “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، أن أغلب القوانين المحلية لا وزن لها، إذ إن النظام هو “أكبر” منتهك لها، بحسب وصفه، و”القانون المحلي هو النظام”، لذلك لن يحاسب العناصر الذين ظهروا في التسجيل المصوّر.
إذ لم يحاسب النظام حتى ضابطًا واحدًا منذ بدء الثورة قبل عشر سنوات، والقوانين تحمي عناصر الأمن التابعين له وتشرعن الجريمة، بحسب عبد الغني.
دوليًا.. جريمة حرب
أما بالنسبة للقوانين الدولية، فأوضح عبد الغني أن هذه الممارسات هي انتهاك للكرامة الإنسانية، وتدخل فيها أنماط متعددة من الانتهاكات المحظورة وفق القانون الدولي، منها التعذيب والتنكيل بالجثث.
كما أن القتل خارج نطاق القانون جريمة، وأصبح واسع النطاق عند النظام السوري، وهذه الممارسات جريمة ضد الإنسانية، بحسب ما قاله.
وأضاف أن قتل هؤلاء وإحراق جثثهم قد يكون بسبب الشك في كونهم معارضين للنظام، أو على خلفية نزاع مسلح، وهو ما يشكّل أيضًا جريمة حرب من جهة القتل ومن جهة التنكيل بالجثث وحرقها.
وأوضح أن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” دائمة التحرك في قضايا الاعتقال والاختفاء القسري والتعذيب، كونها قضايا مركزية، وموجودة في استراتيجياتها التي تظهر على شكل تقارير شهرية أو دوريّة، وعمليات مناصرة عند اللقاء مع أي مسؤولين أو ما إلى ذلك.
من جانبه، أوضح الأستاذ في القانون الدولي وسام العكلة أن القانون الإنساني الدولي يجرّم أعمال التعذيب والتمثيل بالجثث وحرقها، وهناك العديد من الاتفاقيات الدولية التي اعتبرت هذه الأفعال جرائم جسيمة ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
ومن هذه الاتفاقيات، نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والبروتوكول الإضافي الأول الملحق بها لعام 1977، إضافة إلى قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان.
وتتضمن هذه الاتفاقيات قواعد تتعلق بمنع التعذيب والقتل العمد، وضرورة معاملة جثث الموتى بطريقة تتسم بالاحترام، واحترام قبورهم، ووجوب دفنهم بمقابر فردية، وفقًا للديانة التي ينتمون إليها، وعدم جواز التمثيل بهم أو إحراق جثثهم إلا في ظروف استثنائية، كوجود أسباب صحية قاهرة أو طبقًا لديانة الشخص المتوفى إذا كانت تسمح بهذه الطقوس.
كما لا يجوز دفنهم بمقابر جماعية، ويجب أن توضع سجلات للموتى وأماكن دفنهم تمهيدًا لتسليم رفاتهم لذويهم لاحقًا في حال انتهت الحرب.
ويعتقد العكلة أن المساءلة القانونية معطلة حاليًا، لكن هذا لا يمنع من توثيق هذه الجرائم والأدلة المحيطة بها لاستخدامها لاحقًا أمام المحاكم الدولية أو محاكم خاصة تنشَأ لهذا الغرض.
لذلك يجب على المنظمات المعنية بالتوثيق الاحتفاظ بمقاطع الفيديو التي توثق هذه الجرائم وتحليلها، والعمل على التعرف على الأشخاص الذين ظهروا فيها لإدراج أسمائهم ضمن قوائم الأشخاص الذين تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء من الشعب السوري، والعمل على تحريك الدعاوى ضدهم خارج سوريا في حال غادر أي منهم البلاد على أساس مبدأ الولاية القضائية العالمية، وعدم السماح بإفلاتهم من العقاب خاصة أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن تبريرها مهما كانت الظروف استثنائية كحالة الحرب، كما لا يمكن الدفع بالحصانات التي يملكها القادة الذين تواطؤا أو سهّلوا ارتكاب هذه الجرائم مهما علت مستوياتهم.
ليست أول مرة.. النظام صاحب سوابق
لا يشكّل التسجيل المصوّر الذي نشره “زمان الوصل” مؤخرًا، لعمليات إحراق عناصر من قوات النظام جثامين في سوريا لقتلى يُشتبه أنهم معتقلون، المصدر أو الدليل الوحيد الذي يدين النظام السوري في تعاطيه مع المعتقلين، وجثث الموتى منهم.
ووثقت جهات رسمية وحقوقية العديد من العمليات المماثلة التي لم تلقَ نفس الصدى الإعلامي، بسبب حدوثها ضمن فترة التصعيد العسكري التي شنها النظام ضد مختلف المدن والمناطق السورية، والتي انخفضت حدتها عبر إرضاخ بعض مناطق الصراع لـ”تسويات أمنية”.
وأكدت وزارة الخارجية الأمريكية، في أيار من عام 2017، امتلاكها أدلة على اتباع قوات النظام عميات الإحراق في سبيل إخفاء القتل الجماعي الذي يتعرض له المعتقلون في سجن “صيدنايا”.
وقالت الوزارة، إن ما يصل إلى 50 شخصًا معتقلًا يشنقون يوميًا، وإن بعض الجثث يجري التخلص منها في محارق للجثث.
وأوضح القائم بأعمال وزير الخارجية الأمريكية حينها، ستيورات جونز، أن بناء محرقة للجثث محاولة للتغطية على حجم جرائم القتل الجماعي التي تحدث في سجن “صيدنايا”.
ونشرت وزارة الخارجية الأمريكية صورًا التقطتها عبر الأقمار الصناعية في الفترة ما بين عامي 2013 و2017، لما قالت إنه مبنى مقام ضمن مجمع السجن، يجري تعديله لإقامة محرقة للجثث، مشيرة إلى أن الصور لا تقدم دليلًا قاطعًا على استخدام النظام محرقة للتخلص من الجثث، معتبرة في الوقت نفسه أن الأدلة “ذات مصداقية”.
ولفت جونز إلى جمع معلومات من مختلف الوكالات الإنسانية والاستخباراتية توحي باستخدام المنشأة لإحراق الجثث، إلى جانب صور لذوبان الجليد عن سطح المنشأة بسبب الحرارة.
وقالت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة حينها، نيكي آر هيلي، “إن محاولة التستر على جرائم القتل الجماعي في محرقة جثث الأسد تذكرنا بأسوأ الجرائم ضد الإنسانية في القرن الـ20″، وفق ما نقلته صحيفة “نيويورك تايمز“.
لكن النظام اعتبرها “رواية هوليودية”، ونفت وزارة الخارجية والمغتربين الاتهامات الأمريكية التي تحدثت عن إنشاء محرقة داخل “صيدنايا”.
وقال مصدر مسؤول في الوزارة حينها، إن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، “دأبت على تلفيق الأكاذيب والادعاءات لتبرير سياساتها العدوانية والتدخلية في الدول الأخرى ذات السيادة”.
وعرض تقرير صادر عن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“، في شباط من 2015، أبرز حالات إحراق الجثامين بعد القتل ضمن مجازر جماعية، وبعد عمليات الإعدام الميداني.
وأولى عمليات الإحراق التي وثقتها “الشبكة” ضمن تقريرها حصلت خلال مجزرة دير بعلبة التي ارتكبتها قوات النظام على مدار أسبوع من نيسان 2012، ونفذت خلالها عمليات إعدام ميداني بحق السكان، تلتها عمليات تشويه للجثث قبل إحراق معظمها، ودفنها في مقابر سطحية جماعية.
وفي آذار من 2013، اعتقلت قوات النظام عائلتين في أثناء انسحابها من قرية آيل في ريف حمص، بعد اشتباكات مع عناصر تابعين للمعارضة المسلحة، وأحرقت جثامينهم بعد قتلهم، ووثقت “الشبكة” حينها مقتل 14 شخصًا، لوحظت على جثثهم آثار الحرق.
وقتلت قوات النظام عشرات الأشخاص من أهالي قرية المزرعة التابعة لريف حلب، في 21 من حزيران 2013، ورمت جثامين بعض القتلى في بئر القرية، وأحرقت جثامين القسم الآخر، وفق “الشبكة السورية”.
وتبع هذه المجزرة، في تشرين الثاني من العام نفسه، اقتحام قوات النظام مدينة النبك، وارتكاب أعمال قتل، إلى جانب تصوير 14 جثة تبدو عليها آثار الحرق بعد إعدامها خلف إحدى محطات الوقود في المنطقة.
وعن حرق الجثث بعد عمليات الإعدام الميداني، وثقت “الشبكة” ثلاث عمليات إحراق جثامين خلال عام 2012 فقط، حصلت أولاها في شباط، حين وجدت جثة معلمة لغة إنجليزية في العقد الرابع من عمرها، كانت اختطفتها قوات النظام وقتلتها قبل إحراق جثتها.
وفي أيار 2012، أعدمت قوات النظام رميًا بالرصاص ثلاثة أشخاص من عائلة واحدة، في حي القصور بحمص، وعثر الأهالي على الجثث بعد نحو أسبوع من ارتكاب عمليات الإعدام، وعليها آثار الحرق.
ووثق التقرير أيضًا إعدام مختار حي العسالي في دمشق، ذبحًا بالسكاكين على يد قوات النظام، قبل إحراق جثته، في 26 من تموز.
ويشير تاريخ المجازر المذكورة، والتي انحصرت خلال سنوات الثورة الأولى، بين عامي 2012 و2013، إلى احتمالية وجود عمليات تنكيل وإحراق للجثث في سنوات لاحقة، لم يجرِ توثيقها، أو لم تظهر للعلن على الأقل.
عبي بلدي موقع محلي سوري