الهواتف الذكية لا تجعلك غبياً.. دراسة جديدة تنسف الاعتقاد السائد حول سلبيات التكنولوجيا

الأردن اليوم : 

من الأمور السائدة أن الاعتماد على التكنولوجيا يصيبنا كبشر بأمور مثل النسيان والتشتت وغيرهما من المهارات المعرفية، لدرجة أن البعض يرى أن الهواتف الذكية تجعل البشر “أكثر غباء”، لكن دراسة جديدة أثبتت العكس تماماً.

وتناول موقع The Conversation الأسترالي تلك القضية في تقرير بعنوان “هاتفك الذكي لا يجعلك أغبى”، رصد التأثير الفعلي للاعتماد على التكنولوجيا على قدرات البشر المعرفية، ومدى عمق هذا التأثير سلباً وإيجاباً.

وكانت بعض الولايات الأسترالية قد اتخذت بالفعل قراراً يحظر على طلاب المدارس اصطحاب هواتفهم الذكية إلى المدرسة، وهو ما أثار ردود أفعال غاضبة من جانب بعض الطلاب وأولياء الأمور.

وكان السبب المباشر وراء القرار وقتها هو دراسة أعدها بعض متخصصي المخ والأعصاب في البلاد خلصت عام 2019 إلى أن للهواتف الذكية تأثيرات سلبية مدمرة على مستخدميها تجعلهم أكثر غباء وانعزالية من الناحية الاجتماعية وأكثر عرضة للإصابة بأمراض الذاكرة المختلفة، إضافة إلى الإصابة باضطرابات النوم وبعضهم يصبح عرضة للإدمان بشكل عام.

سقراط أول المعارضين “للتكنولوجيا”

وقد أصبحت التكنولوجيا الرقمية الآن موجودة في كلِّ مكان، وازداد اعتمادنا على الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وأجهزة الكمبيوتر على مدار العشرين عاماً الماضية بصورة لافتة، وأخذ هذا الاتجاه في التسارع أكثر وأكثر بسبب جائحة فيروس كورونا.

تُخبرنا الحكمة التقليدية أن الاعتماد المُفرِط على التكنولوجيا قد يبطل قدرتنا على التذكُّر والانتباه وضبط النفس، لكن في الواقع هذه كلها مهاراتٌ معرفية مهمة، ومع ذلك فإن المخاوف من أن التكنولوجيا ستحلُّ محلَّ الإدراك قد لا يكون لها أساسٌ من الصحة.

وكان سقراط، الذي يعتبره الكثيرون “أبو الفلسفة”، قلقاً للغاية بشأن تأثير تكنولوجيا الكتابة على المجتمع، ونظراً لأن التقليد الشفهي لإلقاء الخطب يتطلَّب درجةً معينةً من الحفظ، فقد كان قلقاً من أن الكتابة ستلغي الحاجة إلى التعلُّم والحفظ.

 

ومن أشهر ما كَتَبَ أفلاطون نقلاً عن سقراط: “إذا تعلَّم الرجال (الكتابة)، فإنها تزرع النسيان في نفوسهم؛ سيتوقَّفون عن تفعيل الذاكرة لأنهم يعتمدون على ما هو مكتوب، ويستدعون الأشياء للتذكُّر ليس من داخل أنفسهم، بل عن طريق العلامات الخارجية”.

وتعتبر هذه الفقرة مثيرة للاهتمام لسببين: أولاً، تُظهِر أنه كان هناك نقاشٌ بين الأجيال بشأن تأثير التقنيات الجديدة على القدرات المعرفية للأجيال القادمة، ولا يزال هذا صحيحاً حتى يومنا هذا، فسبق أن صاحب اختراع الهاتف والراديو والتلفزيون مخاوف من أنها إشاراتٌ على قرب نهاية الإدراك البشري بمعناه الواسع.

ويقودنا هذا إلى السبب الثاني، الذي يجعل اقتباس أفلاطون عن سقراط مثيراً للاهتمام، فرغم مخاوف سقراط فإنه لا يزال الكثير منَّا قادراً على حفظ المعلومات في الذاكرة عند الضرورة، لقد قلَّلَت التكنولوجيا ببساطة من الحاجة إلى وظائف معرفية معينة، وليس قدرتنا على تنفيذها.

هل تدهور الإدراك البشري فعلاً؟

إلى جانب ادِّعاءات وسائل الإعلام الشعبية، فُسِّرَت بعض النتائج العلمية على أنها تشير إلى أن التكنولوجيا الرقمية يمكن أن تؤدِّي إلى ضعف الذاكرة أو الانتباه أو الأداء التنفيذي.

ومع ذلك، عند إخضاع هذه التأكيدات للتدقيق يلاحظ المرء افتراضين جدليَّين مهمين، الافتراض الأول هو أن التأثير دائمٌ على القدرات المعرفية طويلة المدى، والثاني هو أن التكنولوجيا الرقمية لها تأثيرٌ مباشرٌ، ولا يمكن ضبطه على الإدراك، ومع ذلك كلا الافتراضين لا تدعمهما النتائج التجريبية بشكلٍ مباشر.

إذ يشير الفحص النقدي الأول إلى أن التأثيرات المُثبَتة كانت مؤقتةً وليست طويلة الأجل. على سبيل المثال، في دراسةٍ بارزةٍ تبحث في اعتماد الأشخاص على الأشكال الخارجية للذاكرة كان المشاركون أقل احتماليةً لتذكُّر أجزاءٍ من المعلومات، عندما أُخبِروا بأن هذه المعلومات ستُحفَظ على أجهزة كمبيوتر، وسيكون بإمكانهم الوصول إليها. من ناحيةٍ أخرى، تذكَّر المشاركون المعلومات بشكلٍ أفضل عندما قيل لهم إنها لن تُحفَظ على الكمبيوتر.

 

وهناك بالطبع إغراءٌ للاستنتاج من هذه النتائج، أن استخدام التكنولوجيا يؤدِّي إلى ضعف الذاكرة، لكنه ببساطة استنتاجٌ لم يتوصَّل إليه مؤلِّفو الدراسة. عندما كانت التكنولوجيا متاحةً اعتمد الناس عليها، ولكن عندما لم تكن متاحةً كان الناس لا يزالون قادرين تماماً على التذكُّر. وعلى هذا النحو سيكون من التسرُّع استنتاج أن التكنولوجيا تضعِف قدرتنا على التذكُّر.

وعلاوة على ذلك، يمكن أن يرجع تأثير التكنولوجيا الرقمية على الإدراك إلى مدى تحفيز الشخص، وليس عملياته المعرفية، إذ تعمل العمليات المعرفية في سياق الأهداف التي قد تختلف دوافعنا من أجلها.

على وجه التحديد، كلَّما كانت المهمة أكثر تحفيزاً زادت مشاركتنا وتركيزنا، يعيد هذا المنظور صياغة الأدلة التجريبية التي تُظهِر أن الهواتف الذكية تقوِّض الأداء في مهمات الانتباه المستمر أو الذاكرة الفاعلة أو الذكاء الوظيفي. 

كيف تغير التكنولوجيا من طريقة عمل المخ؟

ومن المُحتَمَل أن تلعب العوامل التحفيزية دوراً في نتائج البحث، لا سيما بالنظر إلى أن المشاركين في البحث يجدون غالباً المهمات التي يُطلَب منهم القيام بها للدراسة غير منطقية أو مملة.

ونظراً لوجود الكثير من المهمات المهمة التي ننفِّذها باستخدام التكنولوجيا الرقمية، مثل الحفاظ على التواصل مع أحبائنا، والرد على رسائل البريد الإلكتروني والاستمتاع بالترفيه، فمن الممكن أن تقوِّض التكنولوجيا الرقمية القيمة التحفيزية للمهمة التجريبية.

والأهم من ذلك أن هذا يعني أن التكنولوجيا الرقمية لا تضرُّ بالإدراك؛ فإذا كانت المهمة جذَّابة أو مهمة فلن تقوِّض الهواتف الذكية قدرة الأشخاص على أدائها. وللاستفادة من التكنولوجيا الرقمية تكون العمليات المعرفية الداخلية أقل تركيزاً على الحساب وتخزين المعلومات.

 

في المقابل، تحوِّل هذه العمليات المعلومات إلى تنسيقات يمكن تفريغها على الأجهزة الرقمية- مثل عبارات البحث- ثم إعادة تحميلها، هذا النوع من التفريغ المعرفي يشبه تدوين الأشخاص الملاحظات على الورق بدلاً من الالتزام بمعلوماتٍ معيَّنة للذاكرة طويلة الأمد، أو عندما يستخدم الأطفال أيديهم للمساعدة في العد والحساب. 

الفارق الأساسي هو أن التكنولوجيا الرقمية تساعدنا على تفريغ مجموعاتٍ مُعقَّدةٍ من المعلومات بشكلٍ أكثر فاعلية وكفاءةً، وهي تفعل ذلك دون التضحية بالدقة. تتمثَّل إحدى الفوائد المهمة في أن القدرة المعرفية الداخلية التي تتحرَّر من الاضطرار إلى أداء وظائف متخصِّصة، مثل تذكُّر موعدٍ في التقويم، تُحرَّر أيضاً من أجل مهماتٍ أخرى. وهذا بدوره يعني أنه يمكننا إنجاز المزيد، من الناحية المعرفية، أكثر مِمَّا كنَّا نستطيع تحقيقه من قبل.

على هذا النحو، لا يلزم النظر إلى التكنولوجيا الرقمية على أنها تتنافس مع عمليتنا المعرفية الداخلية. في المقابل، يكتمل الإدراك من خلال توسيع قدرتنا على إنجاز الأمور.