الأردن اليوم – كتب المهندس سليم البطاينة
شاع مصطلح الأمننة في أوائل تسعينات القرن الماضي بعد أن وضعت مدرسة كوبنهاجن Copenhagen School لأبحاث السلام والأمن نظرية الأمننة Securitization على افتراض التهديدات الوجودية وإدامة إجراءات الطوارىء والإنفلات في القواعد وصولاً إلى حد هيمنة أجهزة الأمن على السياسة في الدول غير الديموقراطية وسن التشريعات التي تعطي الأولوية للأمن على حساب الحريات وحقوق الإنسان بشكل عام ، وتقود لسيطرة خطاب اللا أمن الذي يتجدد من الخوف من مجهول قادم بما يجذّرُ فكرة الخطر والمخاطر.
أن أمننة السياسة يتأسس جوهرها في ممارسة فعل خطابي غير مسنود بحجج منطقية على اعتبار أن شيطنة الخصم وبث مشاعر الخوف والقلق كلها عناصر كفيلة بحسم المعركة ويمثلُ دون ادنى شك تعبيراً عن أزمة مركبة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية سينتج عنها خضوع الدولة بسائر مؤسساتها لقرار المنظومة الأمنية.
لذا تحرص كافة دول العالم في أن تنأى بالسلك الأمني والعسكري عن السياسة تخطيطاً وتنفيذاً خوفاً من استقطاب سياسي يعمل على تقسيم الأجهزة الأمنية والعسكرية لأنه حينها سيكون انقسام بالغ الخطورة لما تملكه تلك الأجهزة من أدوات القوة بما سينعكس سلباً على أمن الدولة والمجتمع.
فأهم ضمانتين أساسيتين تشكلان عامل استقرار وحماية للنظام الديموقراطي هما مؤسسة القضاء والمؤسسة العسكرية ، وأي محاولة للتحول نحو الديموقراطية سيكون مآلها الفشل إذا لم يتم تحييد المؤسسة الأمنية وإبعادها نهائياً عن الشأن السياسي.
والشارع الأردني بات من الصعب عليه أن يتحمل المزيد من المغامرات ، فالمرحلة القادمة بالغة الخطورة ، ولا أحد يملك أدوات رابحة قد تحسب له ، فالتفاؤل في السياسة جزئي ومؤقت ويولد الإحباط والإكتئاب، والتنبؤ بالأمر رجم بالغيب.
والقراءة الموضوعية تقول لا يجب عزل ما يدور بالأردن عن ما يجري في الفضاء الجغرافي ، وما تمر به الأردن حالياً ما هو إلا مفردة من المفردات التي تتشكل منها الترتيبات الدولية بالمنطقة وهذا ما صرح به السفير الأمريكي الحالي في الأردن Henry Wooster أثناء لقائه بلجنة الإعتماد والعلاقات الخارجية ورئيسها Bob Menedez في الكونغرس الأميركي قبل مجيئه إلى الأردن حول مشروع ( الأردن الجديد ).
لنكن في غاية الصراحة والوضوح فالعقلانية السياسية في الأردن تراجعت كثيراً وحل مكانها نوعًا من الغباء ، والمشهد السياسي بات يسيطر عليه قوى جديدة يعرفها الجميع ، وتلك القوى وحدها إذا رغبت تستطيع أن تجعل البلاد في حالة استقرار أو في حالة من السيولة السياسية.
والسؤال لماذا غلب خطاب الأمننة خطاب الديموقراطية ؟ ولماذا يعاني العالم العربي من غياب الديموقراطية ؟ ولماذا تحدث الإنتكاسات دومًا في الدول التي تشهد إصلاحات أو تحولاً ديموقراطياً ؟ فأمننة قضايا المنطقة جعلت قضية التحول الديموقراطي تحتل مكانة متدنية في قائمة الأولويات.
فكافة دول العالم تحرص كل الحرص على اهتمام أهلها بالشأن العام ومشاركتهم في صناعة ما يجري لهم وما يجري عليهم من قرار.
وسؤالي هنا : ماذا لو أحجم الناس عن المشاركة السياسية في قادم الأيام وأظهروا قدراً عميقاً من اللامبالاة حيال ما يجري ؟ وكيف يمكن لمؤسسات الدولة حينها أن تتصرف ؟ فاللامبالاة السياسية تُعد نوعاً من الفراغ السياسي وغياب الثقة ، وهي بنفس الوقت مرض لا يمكن السكوت عليه فسرعان ما ينقلب للضد ، ويؤدي إلى انسحاب الناس من المشهد العام ضيقاً أو يأساً.
وخوفنا في الأردن بات بين ( الما قبل ) ( والما بعد ) أي بعد التعديلات الدستورية في استلهام نظرية الأمننة المفرطة hyper securitization ، وأن نشهد خلالها انتكاسات متكررة للديموقراطية.
فقد أحسن الفيلسوف والقاضي الفرنسي Montesquieu 1689-1755 حين قال في كتابه ( روح القوانين – The Spirit of the Laws ) أنها لتجربة أبدية أن كل من بيده السلطة ينزع للإفراط فيها ، وأن الحريات العامة لا يمكن لها أن تسود في ظل نظام سياسي أمني قمعي غير ديموقراطي.
وما أحوجنا هذه الأيام إلى فكر متزن يسمع ويحاور !! فأصحاب الفكر الاستعلائي ذو الإتجاه الواحد والرأي الواحد يضنون أنفسهم وحدهم الذين يفهمون ويملكون الحقيقة وحدها.