الأردن اليوم : بمجرد أن نجح الأخوان بربروس في طرد الاحتلال الإسباني من السواحل الجزائرية سنة 1516 ومبايعتهما حاكمين للبلاد تحت راية الخلافة العثمانية، بدأ التفكير في كيفية حماية المدينة من الحملات الإسبانية.
وبعد سنوات من الأخذ والرد توصّل رياس البحر (قادة الفيالق البحرية) إلى قرار بإعادة بناء تحصينات على طول ساحل الجزائر العاصمة، وصنع مدفع ضخم يحميها من الهجمات البحرية.
وأمر وريث خير الدين بربروس في الحكم، نجله حسن باشا، بصناعة المدفع الحلم الذي سيحمي الجزائر من الغزاة لأكثر من ثلاثة قرون.
وفعلاً تم نصبه وسط العاصمة ليكون “فيلق الحق وراجم العدوان”، كما سمّاه الجزائريون وقتها.
صُنع في الجزائر
اختار حاكم الجزائر لمهمة صُنع المدفع سباكاً من مدينة البندقية، كان يعمل بدار النحاس في الجزائر، وبدأ عمله فوراً حيث وضعت في خدمته كل الإمكانيات تحت تصرفه لصنع درة المدفعية الجزائرية.
صُنع المدفع من النحاس الخالص، ويبلغ طوله 7 أمتار ووزنه 12 طناً، ويصل مداه 5 كيلومترات وتزن قذائفه 80 كيلوغراماً، وكان هذا المدى وقتها ثورة في مجال المدفعية، حيث كان بإمكان المدفع وحده صد أي عدوان بحري على المدينة.
وصدّ باب مرزوق سنة 1671 الأسطول الفرنسي بقيادة الأميرال دوكان، الذي حاصر الجزائر ولم يستطع الاقتراب من سواحلها بسبب المدفع، ما جعله ينسحب في الأخير ويعود أدراجه وهو يحمل رفقة جنوده الفرنسيين حقداً كبيراً على “فيلق الحق”.
المدفع “القنصلي”
أطلق الفرنسيون على مدفع بابا مرزوق اسم المدفع القنصلي، وذلك نسبة إلى أن الجزائر تعوّدت قذف قناصلة باريس من فوّهته كلما توترت العلاقات بين البلدين.
وجاء في كتاب “الحركة الوطنية” لعميد المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله، و”كان الفرنسيون يسمونه (القنصلير) ويرتعدون منه إذا ذكر لهم؛ لأن الجزائريين في الماضي وضعوا في فوهته قنصل فرنسا لوفاشي سنة 1683 وقصفوه إلى البحر، ثم كرّروا ذلك مع خليفة لوفاشي وهو بيول سنة 1688، أثناء قصف دوكيني قائد أسطول لويس الـ14 لمدينة الجزائر”.
وذكر الرواية نفسها السفير الفرنسي الأسبق لدى الجزائر برنار باجولي (2006-2008) في كتابه “الشمس لن تطلق من الشرق”، إذ كتب أن أحد حكام الجزائر في القرن الـ17، قرر قذف 13 دبلوماسياً فرنسياً من فوّهة مدفع بابا مرزوق بعد فشل المفاوضات في إقناع الفرنسيين بوقف العدوان على الجزائر.
حقد فرنسي على “الفحل”
لم يكن حلم فرنسا في احتلال الجزائر خفياً فقد حاولت مرات عديدة طيلة قرنين من الزمن؛ لأن السعي الأوروبي (فرنسا، إسبانيا، بريطانيا) كان يتلقى الخيبات واحدة تلو الأخرى من فوهة بابا مرزوق.
وبعد محاولات يائسة أدرك الأوربيون، وعلى رأسهم الفرنسيون، أن لا احتلال للجزائر ما دام “فحل” الجزائر منتصباً.
ومع مرور الوقت تطورت الصناعات المدفعية أكثر، وبات بابا مرزوق غير قادر على حماية المدينة ما اضطر الأسطول الجزائري إلى إخراجه من الخدمة.
ورغم ذلك بقي حقد الفرنسيين على المدفع كبيراً، وقرروا السطو عليه وتحويله إلى فرنسا كهدية للملك لويس الـ19 بعد احتلال الجزائر مباشرة.
وقال شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله في كتابه “الحركة الوطنية الجزائرية” وهو يصف سرقة فرنسا لمدفع “بابا مرزوق”، إنه “من أوائل ما اتخذه الفرنسيون من إجراءات، نقل بابا مرزوق من الجزائر إلى فرنسا، لقد كان المدفع يرمز إلى أشياء كثيرة، إنه قبل كل شيء رمز الذكورة والقوة، ونقلُه، بالإضافة إلى أنه لصوصية عسكرية وثقافية، كان يعني خلوّ الجزائر من رمزها الأقوى والأكثر فحولة”.
ذكرى خالدة
بعد طلبات متكررة وجهتها الجزائر لفرنسا من أجل استعادة مدفع بابا مرزوق، باءت جميعها بالفشل، قرّرت القوات البحرية الجزائرية عدم الانتظار إلى ما لا نهاية، وباشرت صناعة مدفع آخر طبقاً للأصل.
وبمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال البلاد (1962-2012) صنعت القوات البحرية الجزائرية بابا مرزوق جديداً بنفس المواصفات والقياسات والمدى والحجم.
ويعرض المجسم كل سنة في ذكرى الاحتفالات المخلدة لذكرى استقلال الجزائر عن فرنسا.
ورغم أن المدفع يبلغ من العمر حالياً قرابة أربعة قرون ونصف فإن الجزائريين ما زالوا يتغنون ببطولاته، حيث يزخر تراثهم الشعبي بأغانٍ تمجّد المدفع أبرزها “يا بابا مرزوق”.
هل يعود لحراسة المحروسة
مع التغيير السياسي الحاصل في الجزائر وتوتر العلاقات الفرنسية الجزائرية، زاد إلحاح الأخيرة في المطالبة بمتعلقاتها التي سطت عليها باريس طيلة 132 سنة من الاحتلال.
وقد نجحت الجزائر في استعادة جماجم قادة الثورات الشعبية بعد مفاوضات طويلة السنة الماضية، كما افتكت اعترافات من الرئيس إيمانويل ماكرون ببعض الجرائم الفرنسية في الجزائر، إضافة إلى حصولها على قرار يسهل الوصول إلى أرشيف الثورة التحريرية.
وتطالب الجزائر اليوم أكثر من أي وقت مضى باستعادة مدفع بابا مرزوق الذي يبدو وشيكاً، بالنظر إلى التنازلات الفرنسية والإصرار الجزائري على استرجاع.
وشدد وزير المجاهدين العيد ربيقة مؤخراً على ضرورة استعادة المدفع وإعادة نصبه في مكانه حارساً للجزائر العاصمة.
وكانت وزارة الدفاع الجزائرية قد راسلت مراراً نظيرتها الفرنسية من أجل استعادته باعتباره منصوباً في ساعة عسكرية بميناء برايت، لكن الطرف الفرنسي يلتزم الصمت في كل مرة.
عربي بوست