الأردن اليوم – المهندس سليم البطاينه.
بات من السهل جداً إطلاق مسميات عدة على ما يحدث في الأردن ، لكن أياً منها لن يصيب الحقيقية ، ولن يعكس الصورة بشكل مجرد ، لأن الخطاب السياسي الأردني لم يعد مقنعاً بل غدا كلمات لأغنية ناشزة اللحن .. فثمة حالة من الإفلاس على مستوى الخطاب ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال لخطاب جامد أن يُعبر عن واقع متغير بحجة حوزة المعرفة والفهم.
فالفكر لايزال غير قادر على مواجهة اللاعقلانية السائدة في النهج السياسي والإقتصادي الأردني .. فأي كيان سياسي يبتعد عن حقوق ومصالح الناس تبتعد الناس عنه ، لأنهم يبنون مجسّاتهم وأحاسيسهم بما يشاهدونه ويلمسونه من حولهم.
وما يلمسه الناس والمراقبون والمحللون في الداخل والخارج أن الأردن الآن تشهد تطورات في غاية الدقة والخطورة وبنفس الوقت يصعب تحديد اتّجاهاتها والمسارات التي ستسلُكها .. والجميع دون استثناء يستشعرون تلك المخاطر وينظرون إلى أن وطنهم يمر في لحظة حاسمة يصفها البعض بالمرور من عنق الزجاجة إما الإفلات خارج شرنقة الضعف والوهن ، وإما الخروج بقوة من العنق الضيق الذي يحتاج إلى قوة دفع استثنائية تخرج الأردن من أزماته التي لا تكاد تنتهي لصعوبة تكوينها وتشكّلها ، فمنها ما هو عميق وما هو مُركب تسبّب به وعبر سنوات رهطاً من صبيان السياسة ومرتزقة الإعلام الذين تنافسوا على جائزة الغباء السياسي والاقتصادي ، وكان همهم وما زال تسيّد سلم الهرم السياسي وكأن السياسة في الأردن أصبحت مشروعاً تجارياً لا خسارة فيه.
فكم تخيفُني مقولة Milton Friedman فيلسوف الليبرالية المتوحشة ( فقط أثناء الأزمات والصدمات يمكن إحداث تغيرات حقيقية ، فما كان سياسياً أمراً مستحيلاً يصبح في الحال أمراً مُمكناً ( انتهى الاقتباس ).
ولعل بعض الدلالات والوقائع السياسية والتشريعية تُعطي إشارات إلى أن مشروع ( الأردن الجديد ) الذي بشر به السفير الأمريكي الحالي في عمان Henry T . Wooster قبل عام تقريبًا قد بدأ تنفيذه فعلياً ، رغم أن هناك فريقاً على الجانب الآخر يرى أن ذلك حقيقة ينبغي التسليم بها لأن الأردن أصبح مرهوناً بالحسابات الأمريكية والإسرائيلية وباتت سياساته مجرد لعبة تدار بأحكام ويحظر فيها أي نوع من الإستقلالية .. فإغفال الحقائق وفرض سياسات التكييف الهيكلي ما زال مستمر ويتزايد وخصوصاً في الاتفاقيات التي توقع هنا وهناك ولا يعرف عنها أحد شيئًا.
والأنكى من ذلك حين يُثرثر البعض عن الانجازات وعن الإصلاحات ، فعن أي إصلاح هذا الذي يتكلمون عنه ؟ وهل يعرفون أن الأردن لم تعد تنبض بإنتظام كما كانت سابقاً ؟ ولم يعد الأردنيون يتحملون كل هذا الضخ الذي أوصلهم لهذه المواصيل التي حلت بهم وتسببت لهم بحالة من الشيزوفرينيا .. فالذين يعتقدون أننا في مأمن من حالات الدولة الهشة يعيشون في أوهام أو أحلام ليس لها مدلولات على واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
والأسئلة التي تُكرر بين حين وآخر عند بعض الأحداث المهمة تجد إجابة واحده لها لا أكثر ( الله يستر ) .. إذًا ما الذي يدفع المواطن إلى الإحتجاج ، ولماذا تكثر السياسات الإحتجاجية ؟ ولماذا غابت العقلانية السياسية ؟
فالغرور والعناد وفقدان الذاكرة السياسية تسببوا في إختلال منظومة الإصلاح بشكل عام حيث انحرف العمل السياسي والإصلاحي والإقتصادي في مسارات صعبة ، وأمسَت الإرادة السياسية غير جادة في معالجة أمراض الأردن الداخلية .. فالأردن ليس مريضاً لأن جسده معافى ، وليس مريضاً عضوياً ، والدولة كانت ومازالت عاجزة عن انجاز مشروع تنموي يحقق العدالة الاجتماعية ويضمن التوزيع العادل للثروة.
كأني أشاهد فيلماً سينمائياً أحداثه لا تكاد تصدق ، والمشهد السريالي تزداد ألوانه اختلاطاً ولا بديل عن ضرورة عكس اتجاهه إذا ما نظرنا من حولنا ، فقد بات واضحًا ان اشكالية التحولات التي يشهدها المجتمع الاردني تقع على مستويين : أولًا – أزمة داخلية بنيوية تتعلق بنمط الدولة خلال العشرين عام الماضية .. ثانيًا – عوامل خارجية دولية واقليمية متداخلة تندرج في الاطار الوظيفي المرسوم لنا .. وما نحن به الآن ليس مجرد خلل بل سياسة متواصلة الحلقات ، فالدولة لا تعرف ماذا تريد ، ومن ترضي ، ومن تغضب ! والخراب في الدولة هيكلي من الأساس ويسير من سيء إلى أسوأ ، ومن خراب إلى دمار.
والخلاصة هنا أن الأمر لم يعد قابلاً للصمت أو غض الطرف ، ولا بد أن يستبدل التشتت السياسي والعناد والغرور بالرشد والعقلانية ، فالسياسات العامة يجب أن تتصف بالرشادة والحكمة والعدالة والشفافية والقدرة على وزن الأمور بميزان العقل.