وفي البداية، لم يكن عددهن يتخطى 15، لكنهن بتن اليوم بضع عشرات يرفضن عودة عقارب الساعة الى الوراء بينهن عاملات سابقات في منظمات غير حكومية وطالبات ومعلمات وحتى ربات منزل.
تظاهرات
وتخطط الناشطات لتظاهرات مناهضة لطالبان حينا، أو لرسم غرافيتي في الشارع يطالب بـ”الحرية” التي تقلصت مع عودة الحركة إلى السلطة في منتصف أغسطس (آب)، حينا آخر.
ويعرفنّ جيداً مخاطر نشاطهن، وقد بدا ذلك واضحاً بعد اختفاء اثنتين من رفيقاتهن قبل أسبوعين إثر ما وصفنه بمداهمات ليلية إلى منازلهن. خلال الأشهر الماضية، قلة فقط شاركنّ في التظاهرات العلنية خشية التعرض لتهديدات أو للاعتقال.
وتقول شابة عشرينية طلبت عدم الكشف عن اسمها لوكالة، “قلت لنفسي لمَ لا أكون واحدة منهنّ بدل أن أجلس في المنزل وأفكر في الأمور التي خسرناها؟”، مضيفة “الأفضل أن أقف وأقاتل من أجل حقوقي، حقوق أمي وشقيقاتي”.
وحكمت طالبان أفغانستان بين 1996 و2001، قبل أن يطيح بها غزو أميركي. وقمعت خلال فترة حكمها الحريات وحجبت الحداثة عن البلاد. وأكثر من عانى في حينه هنّ النساء اللواتي مُنعن من ارتياد المدارس والجامعات، ومن مزاولة العمل، ومن الخروج وحدهن الى الشارع. كما أُجبرن على ارتداء البرقع.
ولكن في العقدين الأخيرين، وبرغم مواجهتهن الدائمة لمجتمع محافظ وذكوري إلى حدّ كبير، تمتعت الأفغانيات بمساحة حرية أوسع، وبات في وسعهنّ العمل والدراسة واختيار اللباس، ووصل بعضهن إلى مناصب في الدولة.
في 15 أغسطس (آب)، عادت حركة طالبان إلى الحكم بعدما دحرت القوات الحكومية على الأرض بالتزامن مع انسحاب القوات الأجنبية من البلاد.
وخلال الأشهر الماضية، فرضت الحركة قيوداً على حريات النساء، منها الفصل بين الجنسين في مكان العمل ما أعاق عودة كثيرات إلى عملهنّ، ومُنعت النساء من الخروج في رحلات طويلة من دوم محرم، ووُزّعت لافتات تشجّع على ارتداء البرقع أو النقاب.
تلاحق ذكريات حكم طالبان الأول شالا (44 عاماً)، الموظفة الحكومية السابقة والوالدة لـ4 أطفال. ففي فترة التسعينات، لجأت شالا مع عائلتها إلى باكستان بعد أن تقدّم أحد مقاتلي طالبان بطلب الزواج منها، ولم تعد إلى بلدها إلا بعد سقوط الحركة.
وتقول “أكثر ما أخشاه اليوم هو أن أرى الفتيات قابعات في المنزل مجدداً”.
وبرغم تهديدات تلقتها من طالبان، على حد قولها، تحاول اليوم أن تُشارك في كل تظاهرة، تحضر الاجتماعات وتخرج سراً لرسم الغرافيتي، مثل “تحيا المساواة”، على جدران كابول.
وتضيف “كل ما أريده هو أكون مثالاً لشابات يافعات بأنني لن أتخلى عن النضال”.
تلقت شالا تهديدات بإيذاء عائلتها، لكنها تقول إن زوجها يدعمها حتى أن أطفالها باتوا يرددون هتافات تطالب بالتعليم، داخل المنزل.
وحضرت وكالة “فرانس برس” اجتماعين للناشطات في يناير (كانون الأول)، الأول شاركت فيه نحو 40 امرأة، والثاني بضع نساء فقط كنّ يحضرنّ لافتات لتظاهرة.
وخلال اللقاء الثاني، وأثناء كتابتها لافتة تطالب بالعدالة واحترام الحقوق، أمسكت ناشطة هاتفها الخليوي بيد وأقلامها باليد الأخرى، وقالت “هذه فقط أسلحتنا”.
مخاطر وتحديات
وتقول شابة أخرى في الـ24 من العمر بتحدّ “الأمر خطير لكن ليست هناك أي وسيلة أخرى، علينا أن نقبل أن الطريق الذي سلكناه مليء بالتحديات”.
وتحدّت الشابة، على غرار نساء عدّيدات عائلتها المحافظة وعمّها الذي كان يرمي الكتب لكي يمنعها من التعليم.
وتقول “لا أريد أن أدع الخوف يسيطر علينا ويمنعني من الكلام ويبعدني عن قول الحقيقة”.
وغادر كثيرون البلاد، لا سيما بين الناشطين، بعد وصول طالبان الى السلطة، خوفاً من التعرض لهم.
وتقول شابة أخرى فضلت عدم الكشف عن اسمها، “حتى إذا غادر نصف سكان البلاد، فإن النصف الثاني باق فيها”.
سرية العمل
وخلال الأشهر الماضية، وضعت الشابات أطراً سرية للعمل، شكلنّ مجموعات صغيرة تضمّ كل واحدة عشر ناشطات فقط على تطبيق واتساب للتنسيق والتحضير لاجتماعات وتظاهرات. حين يتفقن على التوقيت والمكان، يرسلن قبل وقت قصير فقط التفاصيل لمجموعة أخرى تضم عدداً أكبر من النساء.
وليس الدخول إلى مجموعات “التخطيط” على واتساب بالأمر السهل، إذ تخشى الناشطات أن يتسلل “مخبر” إلى صفوفهنّ.
ومن أجل التأكد مما إذا كان يمكنهن الوثوق بنساء جديدات، يتقربن من الناشطات المعارضات، تُخضعهن هدى خاموش (26 عاماً) لاختبارات، فتطلب مثلاً منهن تحضير لافتات وشعارات في غضون ساعتين، وإن شعرت أنهن قمن بعملهنّ سريعاً وبإتقان، تقبل بهن في المجموعة الكبيرة.
وحصل يوماً أن أَبلغت إحداهن بموعد غير صحيح لتظاهرة، واكتشفت أن عناصر طالبان حضروا إلى المكان قبل موعد التظاهرة، فقطعت علاقتها بها.
وللتظاهرات رقم هاتف محدد يتم فتحه فقط للتنسيق مع الإعلام والمشاركات خلال يوم التظاهرة ويُغلق لاحقاً حرصاً على ألا يتم تتبعه.
وتوضح هدى التي غيّرت رقم هاتفها مرات عدة جراء تلقيها وزوجها تهديدات، “نأخذ معنا عادة لباساً أو حجاباً إضافياً. وبعد التظاهرة نغيّر ثيابنا.. لكي لا يتم التعرف علينا”.
وتقرّ أن تلك الإجراءات “قد لا تكون كافية، وقد نتعرض للأذى، الأمر متعب.. لكن لا يسعنا سوى أن نتحمل”.
قمع طالبان للتظاهرات
ومنعت طالبان التظاهرات المناهضة لها، ولم يتردد مقاتلوها في استخدام القوة في مواجهة أعداد محدودة من الناشطات الثائرات. ولكن هدى وأفغانيات أخريات بقين مصممات على الخروج الى الشارع، وإن بأعداد محدودة للمطالبة بـ”الحرية والعدالة والتعليم والعمل”.
وتروي امرأة، أنها خلال إحدى التظاهرات، صفعت مقاتلاً على وجهه، كما قادت أخرى الهتاف غير آبهة بمسلح ملثم يوكزها ببندقيته من الخلف، ولم تتردد ثالثة في ضرب مقاتل رفع سلاحه في وجهها.
قبل التظاهرات، لا تتجمع النساء مرة واحدة، بل يأتين في مجموعات صغيرة من 2 أو 3، يتجولنّ قليلاً، يقفنّ أمام المحال، وفي الساعة المحددة يلتقينّ سوياً ويبدأن مسيرهن.
وما هي إلا دقائق، حتى يبدأ مقاتلو طالبان بالتجمع حولهنّ، يحاولون عرقلة طريقهن، يصرخون في وجوههن وحتى يوجهون أسلحتهنّ نحوهنّ.
وخلال التظاهرة الأخيرة في 16 يناير (كانون الثاني)، استخدم مقاتلو طالبان رذاذ الفلفل لتفريق نحو 20 ناشطة قمن برش برقع أبيض باللون الأحمر، تعبيراً عن رفضهنّ لارتدائه.
بوعدها بأيام قليلة، اتهمت ناشطات حركة طالبان باعتقال المتظاهرتين تمنى زريابي برياني وبروانة ابراهيم ضمن سلسلة مداهمات شنتها ليلاً.
قوبل وقت قصير من اختفائها، انتشر شريط فيديو لتمنى على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر فيه في حالة توتر، وتردد فيه “الرجاء المساعدة، طالبان أتوا (..) شقيقاتي في المنزل”.
وتتوجه تتمنى للحديث مع من يقف خلف الباب بالقول “إذا أردتم الحديث، يمكننا التكلم غداً. لا أستطيع أن أراكم خلال الليل بوجود فتيات، لا أريد، لا أريد.. الرجاء المساعدة”.
ولم يعرف مكان الشابتين حتى الآن.
وفي الرابع من فبراير (شباط)، أعربت الأمم المتحدة في أفغانستان عن قلقها إزاء اختفاء ناشطتين أخريين. وطلبت من طالبان الكشف عن مكان وجود النساء.
ودفع الخوف بأخريات قابلتهنّ “فرانس برس” قبل حملة المداهمات، إلى الاختباء وتغيير أرقام هواتفهنّ وأماكن سكنهنّ.
ونفى المتحدث باسم حركة طالبان ذبيح الله مجاهد اعتقال او احتجاز ناشطات، لكنه حذر أن لدى السلطات “الحق في اعتقال واحتجاز المعارضين وأولئك الذين يخترقون القانون”.
تطوير وابتكار في الأساليب
وتطوّر النساء يوماً بعد يوم أساليبهن. وفي البداية، كانت التظاهرة تنتهي بمجرد تعرض إحداهن لاعتداء. أما اليوم، تقول هدى “بتنا نوكل اثنتين منا بالاهتمام بالمعتدى عليها، فيما تكمل الأخريات الاحتجاج”.
ولمعرفتهنّ أن طالبان لن تسمح لصحافيين بتغطية تحركهنّ، تستخدم النساء هواتف ذات نوعية جيدة لالتقاط الصور والفيديو ونشرها لاحقاً على وسائل التواصل الاجتماعي.
وترى هيذر بار من منظمة “هيومن رايتس ووتش”، أن “الكثير من الناشطات والخبيرات اللواتي عملن في أفغانستان لسنوات عدة.. غادرن البلاد بعد 15 أغسطس (آب)، لكنهن يتابعن عملهن من المنفى”.
وعن النساء اللواتي يخرجن للتظاهر في أفغانستان، تقول “أعتقد أنهن لا يزلن يحاولن تلمس الطريق (…) يخرجن إلى الشارع برغم معرفتهنّ أنهن سيتعرضن للأذى، يظهرن وجوههن على التلفاز، فيما حركة طالبان حولهن لا تتحمل المعارضة، بل تلاحق المتظاهرين والمنظمين، تهددهم وترهبهم”.
وتضيف “إنه جيل من النساء الشابات.. ليس هناك من يتعلمنّ منه، فبتنّ مضطرات للابتكار وحدهنّ”.
وعندما يتعذر التظاهر، تفتش النساء عن حلول بديلة: تجمع لإضاءة شموع، رفع لافتات في منزل والتقاط صور ونشرها.
وتجد وحيدة عامري (33 عاماً) التي تنتمي إلى مجموعة نسائية صغيرة، أن النساء يحتجنّ إلى المزيد من التأني في مواجهة حركة طالبان.
وتقول “تظاهرنا في البداية، لكنهم استخدموا العنف ضدنا.. وحين شعرنا أنه لا يمكننا أن نرفع صوتنا في الشارع، كان علينا أن نغير طريقتنا في الاحتجاج”.
بين الفينة والأخرى، تحدد مع مجموعة صغيرة من رفيقاتها منزلاً يلتقطن فيه صوراً ويرفعنّ شعارات تطالب بحق التعليم والعمل.
وتقول “باتت تظاهراتنا سرية، نشاركها على وسائل التواصل الاجتماعي، نكتب المقالات، ونحضر جلسات حوار على تطبيق كلاب هاوس او موقع تويتر”.
ولكن عامري لا تخفي خوفها. “قلبي وجسدي يرتجفان حين أخرج إلى الشارع”.
النتيجة
كانت هدى تحلم بالعمل في الشأن السياسي في أفغانستان، لكن كل ما يتاح لها اليوم هو تنظيم التظاهرات سراً والحرص قدر المستطاع على ألا تقع ورفيقاتها في أيدي طالبان.
وتقول “كنت في الماضي إذا سألني أحدهم ماذا تريدين أن تصبحي في المستقبل، أجيب أنني أريد أن أكون رئيسة للبلاد”.
وتضيف “إن لم نقف اليوم دفاعاً عن مستقبلنا، فإن تاريخ أفغانستان سيعيد نفسه.. وإن لم نطالب بحقوقنا، سينتهي بنا الأمر في المنزل بين أربعة جدران، وهذا لا يمكن أن نتحمله”.
وتضيف “تاريخ أفغانستان تغير اليوم، ولا يمكن العودة إلى الخلف، وأن نخسر انجازاتنا”.
ويبقى السؤال بالنسبة لكثيرين، ما اذا كانت تلك التحركات ستؤدي إلى نتيجة.
وتقول بار “أعتقد أن ما يحصل معبر جداً، وما تفعله النساء لديه تأثير كبير فعلاً لأن صورهن تجذب انتباه العالم أكثر من أي شيء آخر في أفغانستان.. هنالك شيء ساحر في مجموعة من النساء تسير وتهتف.. ضد طالبان”.
وترى عامري أن التظاهر ضد البرقع الذي يحترمه جزء كبير من المجتمع، ليس الأولوية الآن “بل هناك أمور أخرى علينا حلها قبل ذلك، فنحن ممنوعات عن المدارس، والجامعات مغلقة، لقد أزالونا من المجتمع ومن السياسة”.
وتضيف بواقعية شديدة “قد لا ننجح.. كل ما نريده أن نبقي صوت العدالة عالياً، وبدلاً من 5 نساء فقط، أن ينضم إلينا الآلاف”.