بقلم : المهندس سليم البطاينة
في مثل هذه الأجواء المُتخمة بالإحباطات والمُفعمة بيأس الفقر تستوقفني العجالة لأردّد بقوة بأن التحذيرات التي تصدر عن مسؤولين سابقين هي أصدق تعبير عن ما يمكن تسميته بالفجوة الإدراكية ما بين المواطن والدولة في بلد تعصف به الأزمات .. وواضح جداً أن المشهد وصل دركاً مأساوياً والأردنيون يعيشون حالة من عدم اليقين ويغرقون في الشك ، ولم يعد إيمانهم بكل ما يحيط بهم يستند إلى الثقة بقدر ما يستند إلى الشك والتشكيك وهم يشهدون بألم مكتسباتهم تنفلت من بين أيديهم في ظل انهيار كبير للخدمات العامة والبنى التحتية وارتفاع أسعار جنوني وضرائب وجباية إلى ما فوق الإحتمال والقدرة .. فالربط كما نشاهده كبير بين ارتفاع درجات الإحتقان وبين تردي الأوضاع المعيشية والإقتصادية للأردنيين.
أزمتنا بلغت مستوى من الخطورة والتعقيد إلى مرحلة لم يعد يجدي حيالها اعتماد المقاربات السابقة ، وطريقة إعطاء المسكنات لعلاج أزماتنا هو خيار يائس وخيار مقامر يطلب الصولد في لعبة البوكر مغامرًا بكل أوراقه .. وزرع الخوف داخل الأردنيين أفقدهم القدرة على ممارسة الجرأة والتساؤل عن مصيرهم ، وباتوا محكومين بالظروف التي يعيشونها ، وأصبحوا مضطرين إلى تقبل حياتهم رغماً عنهم ، وتعبوا وهم يحملون همومهم على ظهر أحلامهم ويكتبون يأسهم على جدار الصمت الذي بات وحده لا يكفي لأن الأمر يحتاج المواجهة بلحظة وعي يمكن من خلالها أن تجعل المشهد مكشوفاً وواضحًا .. فالتناقضات والمفارقات التي تطول وتكتنف المشهد الأردني فاقت حدود السريالية ، وأصبح المشهد عَصي عن الفهم والتحليل وبلغ درجة الكوميديا السوداء.
وأصبحت البيانات والتوضيحات التي تصدر بشأن أي أزمة تحدث تقودنا من خطأ إلى خطأ ومن مشكلة إلى أخرى ومن أزمة إلى أزمة تعكس ضعف الطاقم السياسي والأمني في إدارة الأزمة.
فقد حدثنا المؤرخ الإقتصادي Steven Sereles رئيس دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفرد ( Harvard University ) الأمريكية في كتابه ( الجوع والدولة ) أنه أصبح مألوفاً في دول العالم الثالث الإستبدادية أن تعمل الدولة العميقة على تجهيل الناس وتضليلهم عبر إخفاء الحقيقة وعبر إلهائم بفرقعات وزوبعات في حول ما يدور في البلد.
وهنا لسنا بحاجة للسؤال عمن وضع المسافة العمياء بين الرؤية والمشهد ، فجميع المواقف في الأردن باتت تُدار بمنطق الغباء ، والدولة وأجهزتها لا يدركون معنى المجهول وتحول خطابهم إلى خطاب أنطولوجي يدور فقط حول المنظومة الأمنية لا حول المخاطر التي تحيط بالدولة.
عمومًا هنالك آراء تقول أنه لا جدوى من الكتابة ما دام هناك من لا يبالي ، وما دام هناك من يراهن على استمرار غيبوبة الناس ، لأن الأردنيون استسلموا لسلطان النوم وصحوتهم لم تأتي بعد ، ولم تعد قصة مطالبتهم بحقوقهم تشغل بالهم لأنهم استسلموا وقرروا بالاجماع القبول والخضوع نتيجة الخوف والجهل الذي تم ترسيخه فيهم ، وأصبح منطق الحياة بالنسبة لهم خاضعًا لشروط ومحددات.
ومرة أخرى يسألونك لماذا تكتب ؟
نكتب لأنه لا أحد يستطيع أن يقول الحقيقة .. نكتب لأن الأحلام مقفلة بالشمع الأحمر بسبب الذين يروا فينا امتداد لمزاد علني .. نكتب بعيداً عن الضوء والضوضاء لأن صراع الأرواح أكبر من الألم .. نكتب لأن الصمت والصوت ليس خياراً .. نكتب ربما يتغير الحال وتنهض البلاد ويتوقف النهب والسلب .. نكتب لربما تُضيء قلوب الناس بالطمأنينة والفرح ، الفرح المؤجل الواقف على قيد الإنتظار.
نكتب عن الذين يركضون على نصل السكين ولا أحد ينتبه لهم .. نكتب لأن حكوماتنا لا تشعر بوجع الأرواح .. أرواح الذين يبكون من البؤس ليلاً ولا يسمعهم أحد ولا خيار لهم سوى الصمت بعد أن سُرقت أحلامهم بوضح النهار.
وقناديل الدولة على ما يبدو منذ زمن طويل نورها خافت ولا ترى عتمة الحالة السوداء التي يعيشها الأردنيون .. والحكومات لا تحب الفقراء ، والمشاريع التي قيل عنها أنها تخص الفقراء كانت مجالاً للنهب والسرقة.
والفساد هو الذي أوقع الأردنيين في الفقر والعوز ، وهو الشر الذي أتى من خلاله غبار الفقر .. فقد تشعّب الفقر في الأردن وكثُرت حكاياته وأخذ منحنى تصاعدي ، وتمدد وبدأ يضم المزيد إلى أتباعه سنوياً ، وكشف الوجه الآخر لعدم الإستقرار الإجتماعي .. فتغيب الإنسان وتهميشه وإفقاره وتعميق حالة الإغتراب والإستلاب لديه يشكل أحد مداخل تحلل الدولة والمجتمع ، ويحول المواطن إلى كائن مشوه ومسلوب الإرادة.
عمومًا ثورة البطون هي أقدم ثورات البشرية والخبز لم يعد صمام أمان الشعوب ، فهل تقرأ الحكومة وتسمع صيحات الفقراء ؟ وهل لها أن تعيش ولو بالخيال معهم ؟
بالله عليكم انزلوا للشارع وراقبوا سلوك الأردنيين اليومي .. سترون ما لا يسرّكم وما لا يُحب صُنّاع القرار سماعه أو رؤيته.