بقلم : المهندس سليم البطاينه
إن للدول أسباب وعوامل تؤدي إلى انهيارها ، ودول كثيرة يمتد تاريخها الآف السنين هرمت وعانت من أمراض الشيخوخة ، لكننا في الأردن عمر دولتنا لا يزيد عن بضع عشرات من السنين وبدأنا نعاني من نفس الأعراض .. فخلال العشرون عاماً الماضية تم خلخلة بنية الدولة ، وبتنا نعاني من ضعف في مناعتنا وبات الخوف من المجهول يُثير فينا الخوف من المُفاجأة ، وهنا نحن لا نرسم صورة سوداوية لأحوالنا ، لكننا أذكى من أن نراها وردية .. وحتى أُبرىء نفسي من السوداوية وتشويه الإنجازات لن أشارك في حفلة اللطم والبكاء على ما نشاهده ونسمعه.
فمعضلتنا الإقتصادية لن تجد لها حلول في الورش واللجان والخلوات ، وإن المؤتمرات الدافوسية التي عُقِدت بشأن الإقتصاد والإستثمار في الأردن كثيرة لا حصر لها تسبّبت بالعديد من الإخفاقات والخيبات وجلبت الكثير من التشاؤم حول مستقبل الأردن ، فقد خسرنا سنوات وسنوات وها نحن نعود مرة أخرى للإعتراف بأننا عجزنا وفشلنا وأن الحل السحري الذي يفكر به البعض غير موجود.
ولطالما أدمنّا ولسنوات طويلة على تشكيل لجان تُعنى بالإصلاحات لرسم صورة للأردن لسنوات قادمة خلال مدد زمنية محددة لكن للأسف جميع مخرجاتها ذهبت أدراج الرياح وكأن شيئاً لم يكن ، لأنها كانت فقط من أجل إلهاء الناس لإستهلاك وقتهم والإستحواذ على تفكيرهم .. والناس تفهم أن الغرض من المؤتمرات والورش يعني خلق فرص عمل ورفع مستوى المعيشة ، وتأمين الرعاية الإجتماعية وضمانات التقاعد ، وتقديم الخدمات الإجتماعية والصحية والتعليمية والنقل على أحسن حال.
فتشكيل اللجان وعقد الورش والمؤتمرات يعني إطالة أمد المشكلة وبرودها مع الوقت ، والأردن لا يمكن له أن يعيش دون تخطيط لمستقبله وموارده من أجل النهوض .. وجميع السياسات الإقتصادية والإجتماعية اتجهت إلى تثبيت ركائز الدولة استنادًا إلى المفهوم الأمني مقدمة إياه عن كل المفاهيم الأخرى ، وبات صانعوا السياسات لا يدركون أن عملية الحكم والسلطة وإدارة الدولة أصبحت تُقاس بما تقدمه للمواطن معيشياً ، والمواطن لم يعد قابلاً لإستهلاك الشعارات بإنتظار قرارات ومخرجات الخلوات واللجان والورش المنعقدة.
وغالبية الحكومات سابقًا أن لم تكن جميعها تنصّلت من مسؤولية الملف الأهم، وهو الملف الإقتصادي بحجة تعدد مراجعه حيث كان الديوان الملكي ولايزال يستحوذ على ملفات كثيرة كالإقتصاد والطاقة والمياه والنقل .. الخ.
التغير بات مطلوباً أكثر من أي وقت مضى ، والمقصود هنا ليس تغير الأشخاص فقط بل تغير الأدوات والنهج ، فوجود مؤسسات مستقرة قادرة على المساءلة وتنفيذ البرامج الحقيقية ومحاربة الفساد أمرٌ لا غنى عنه لإنقاذ الأردن وعقلنة الفعل الإقتصادي خوفاً من الإنهيار .. والإقتصاد الأردني عمليًا أصغر من اقتصاد شركة ببسي كولا وأمازون العالمية ، لكن الفساد فتك به وتعدد المرجعيات انهكه وأضاع الخيط والعصفور ، وباتت ديون الأردن تفوق حجم اقتصاده ، ومعجزة وحدها القادرة على إنقاذ الإقتصاد من الإنهيار ومن المستقبل القاتم الذي يواجهه.
بيد أن التاريخ يشي بأن المعجزات لا تقع هكذا بل تُصنع عن سابق تصور وتصميم ، ففي كثير من المعجزات كان هناك ثمة رؤية .. فعلى سبيل المثال المعجزة الأسيوية ( النمور الآسيوية ) التي انتشلت الملايين من الفقر في وقت قياسي ، وكان السر في ذلك هو التعليم كمدخل أساسي للتنمية.
ولكي لا يشطح بنا الخيال ونكون أكثر واقعية في وصف الملف الإقتصادي على نحو دقيق وموضوعي ، فلعقود طويلة اعتمد الإقتصاد على الإستدانة وعلى المنح والمساعدات التي لا ضمانة لاستمرارها .. فقد كانت جميع مؤشرات التحسن الإقتصادي وهمية وإنجازات رقمية ، وغالبية الخطط والحزم الإقتصادية كانت تدور في فلك الأحلام والأمنيات ، علاوة على أن المناخ الإستثماري غير ملائم لأن بنية الدولة وإمكانياتها ما زالت حتى اللحظة عاجزة عن استقطاب وتوطين مؤشرات الإستثمار.
والصناديق المالية العالمية المانحة والمُقرضة ( البنك الدولي و صندوق النقد الدولي ) والدول المانحة التي لا بد من استرداد ثقتها سريعًا بعد ما حصل من تسريبات حول الملاذات الآمنة ( Panadora Papers and Credit Suisse ) تتّفق بأن أزمة الاقتصاد الأردني ليست وليدة ضغوطات كما يروق للبعض ترويجها ، بل هي وليدة تراكمات من الفشل واستفحال الفساد في بنية الدولة .. وهنا تستحضرني الذاكرة في ما قالته قبل ثلاث سنوات ( ليان شتريت ) المستشارة في برنامج النزاهة المالية في المركز العالمي للأمن التعاوني في واشنطن Global Center On Cooperarltive Security أن هناك شعوراً بسوء إدارة الأموال المقدمة للأردن ، وأن الحكومات تتعمد فرض ضرائب على الفقراء ، وأن الأردن يدير اقتصاده بشكل سيء ولا بد أن يكون هناك مزيداً من الشفافية التي من شأنها تبديد المخاوف المتعلقة بمسألة الفساد ، إلى جانب فتح النقاش جديًا حول المساعدات والمنح إلى أين تذهب ؟
فقبل أشهر أشارت صحيفة Quarterly journal economics التي تصدرها مطابع جامعة أكسفورد ( Oxford University ) البريطانية إلى أن المؤشرات الإقتصادية في الأردن غير مريحة .. ووفقاً لمعهد Stockholm International peace Research Institute أن هنالك مؤسسات سيادية في الأردن لا تُعرف موازناتها ولا حجم إنفاقها المالي.
وأخيرًا علينا أن نَعي أن المزيد من الإقتراض سيكون بمثابة ضرائب مؤجلة على الأردنيين .. وإن الأساس في اللجوء إلى الإستدانة هو مدى قدرة الدولة على تحمل أعبائها الحالية والمستقبلية أي بمعنى آخر معيار الطاقة الإستيعابية للدين الخارجي.