الاردن اليوم – كتب د. خالد الوزني
يصدر في العالم العديد من المؤشرات العالمية، وفي قطاعات متعددة، بعضها له علاقة بالشأن الاقتصادي، والآخر بالشأن السياسي، والعديد في الشأن الاجتماعي. فهناك مؤشرات لها علاقة بالتنافسية العالمية للاقتصاد، أو بسهولة بدء الأعمال، أو في التنمية المستدامة، وهناك مؤشرات الحرية، والسعادة، والتنمية البشرية، والمعرفة العالمية، وغيرها من المؤشرات التي باتت إحدى المرجعيات التي يتم من خلالها تصنيف الدول، إما في مجال الاستقرار السياسي، وإما التصنيف الاقتصادي، وإما نجاعة الاستثمار.
الشاهد مما سبق أنَّ المؤشرات العالمية، وبغض النظر عن القطاعات التي تغطيها، باتت تفرض على صنّاع القرار في العالم الاهتمام بها، بل وبات العديد من الدول التي تستشرف المستقبل، وتسعى أن يكون لها موطئ قدمٍ في الترتيب العالمي، تخصّص للتعامل مع مؤشرات تلك التقارير فريق عمل دوره الأساسي متابعة التقارير العالمي، ومعرفة أوجه القصور لمعالجتها، وأوجه القوة وتنميتها عبر اقتناص الفرص التي يمكن أن ترسو عليها نقاط القوة تلك، آخذاً في الاعتبار كافة التحديات التي تفرضها اليئات المحيطة بالدولة.
ولعلَّ من المفيد الإشارة هنا إلى أنَّ دخول الدول ضمن تلك المؤشرات، أو عدم إدراجها فيها، يعتمد بشكل أساسي على توافر البيانات الدولية والرسمية عن الدولة المعنية.
ويضاف إلى ذلك، في بعض الحالات، الحاجة إلى جمع بيانات محددة من الدولة، عبر استطلاعات الرأي، أو استبيانات رقمية أو ورقية، أو التواصل مع بعض الجهات من ذوي العلاقة. وفي حال تعذُّر أيٍّ من الأمرين؛ أي البيانات الرسمية، أو جمع الأراء والاستطلاع من الداخل، فإنَّ ذلك يعني عدم إدراج الدولة المعنية ضمن التقرير.
وقد تسعى بعض الدول إلى عدم دخولها في بعض التقارير، وذلك عبر تضييق عملية جمع البيانات الداخلية، أو عدم الموافقة على إجراء استطلاعات الرأي من الداخل، رغبة من تلك الدولة في عدم الظهور في التقرير لفترة محددة. إلا أنَّ ذلك أيضاً بات يجعل من الدولة محل انتقاد وحَرَجٍ عالمي، وإقليمي على حدٍّ سواء.
أمّا الدول التي تجعل من تلك التقارير هدفاً لإظهار دورها ومكانتها العالمية، وخاصة في الشأن الاقتصادي، فإنها تقوم بتحديد فرق عمل متخصّصة للتعامل مع التقارير، ووضع خطط للوصول إلى مقدمة الترتيب إقليمياً وعالمياً، وتُعَدُّ دولة الإمارات العربية المتحدة أنموذجاً في ذلك الشأن، وقد أدّى ذلك الاهتمام إلى وصول الدولة إلى المرتبة الأولى عالمياً فيما يزيد على 50 مؤشراً عالمياً، والوصول في الوقت نفسه إلى المرتبة الأولى إقليمياً فيما يزيد على 100 مؤشر عالمي. وهو بالتأكيد ما جعلها تحصد في العديد من السنين ما يتجاوز 40% سنوياً من حجم الاستثمارات الخارجية العالمية التي تستهدف منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ذلك أنَّ تحقيق تلك المراتب المتقدمة عالمياً يعني إعادة ترتيب البيت الداخلي، من حيث البنية التحتية، من طرق ومواصلات، واتصالات، وكهرباء ومياه، إضافة إلى تحسين مستوى البُنية الفوقية في مجال القوانين، والسياسات، والإجراءات، والأنظمة والتعليمات الداخلية، وفق أفضل التطبيقات العالمية، لا بل والتفوُّق بدرجة عمَّا حقَّقته أفضل التطبيقات العالمية.
والتقدُّم المستمر في التقارير العالمية، حتى لو لم تحقِّق الدولة المرتبة الأولى مباشرة، يعني الجدية التامة في تحسين بيئة الأعمال، ومستوى المعيشة، ومنعة الاقتصاد، ومستوى التقدُّم التقني والمهني في الدولة، وجميعها من الأولويات التي تنظر إليها الاستثمارات العالمية الكبرى قبل أن تلج إلى أي دولة، وقبل حتى أن تتطلَّع إلى الإعفاءات الضريبية أو الجمركية فيها.
والمعضلة الحقيقية تكون حينما تغض بعض الدول الطرف عن التراجع المستمر في المؤشرات العالمية، ولا تلقي لها بالاً، ولا تخصِّص فريق عمل لتحسين التراتبية، ومعالجة أوجه القصور والضعف، معتقدةً أنَّ جذب الاستثمارات، وتحقيق النمو يتم عبر سياسات داخلية، وعبر التحوُّل الرقمي، ومن خلال تغيُّر الأشخاص، دون النظر إلى المتطلبات العالمية والمؤشرات، وما توحي به تلك المؤشرات من أوجه قصور، أو حتى من تطورات تحدث في العالم.
التجربة العالمية الأخيرة مثلاً، في مؤشر السعادة، وفي مؤشر المعرفة العالمي، وكلاهما صدر مؤخراً، لا تتطلَّب تبرير تراجع الدول في تلك المؤشرات بقدر ما تتطلَّب الإفادة من نتائج محاورهما؛ فالأول يُحدّد للمهتمين مستوى السعادة، أي الشعور بالاستقرار المجتمعي وبالتالي الإطمئنان إلى الاستثمار، في دولة ما عبر الربط بين استبانة استطلاع آراء شخصية لعينة من المقيمين في الدولة، مع ستة عوامل تتمثَّل في الناتج المحلي الإجمالي، ومتوسط الأعمار، ومستوى الدعم الاجتماعي، ومستويات الحرية والفساد، ومستوى السخاء في الدولة، إضافة إلى بعض الجوانب غير الرقمية والتي تتمثَّل في قياس الصحة النفسية ومستويات القيم والأخلاق في تحقيق السعادة في الدول، ويشمل المؤشر 146 دولة حولة العالم.
أمّا المؤشر الثاني، مؤشر المعرفة العالمي، فهو يغطي سبعة قطاعات هي: التعليم قبل الجامعي، والتعليم التقني والتدريب المهني، والتعليم الجامعي، وقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والإبداع والابتكار، والاقتصاد، وقطاع البيئات التمكينية، ويحتوي على نحو 133 متغيراً يتم جمعها من التقارير الدولية، والبيانات الرسمية للدول، والمؤشرات المنشورة في التقارير العالمية، ويعدُّ كلا المؤشرين من أكثر المؤشرات شمولية للمتغيرات التي يحتاج صنّاع القرار في أي اقتصاد إلى معرفتها، بما يساعدهم على تطوير البيئة الاقتصادية، والاجتماعية للدولة، وبالتالي تحسين القدرة على جذب الاستثمارات وتوطينها في الدولة.
وفي الختام، فإنَّ التقارير الدولية، والمؤشرات العالمية، هي بمثابة مشورة دولية مجانية للدول التي ترغب في الإفادة وتحسين مستوى أدائها عالمياً، في محاور المؤشرات المختلفة، خاصة أنَّ تلك التقارير باتت تتمتَّع بمصداقية عالية في المنهجية، في عالم تحكمه قواعد البيانات الكبرى، والمعرفة، والشفافية، والحاكمية العالمية.
ويبقى على صنّاع القرار أن يجعلوا من تلك التقارير المجانية سبيلاً لقاعدة المعلومات التي تُمكّنهم من استشراف المستقبل لدولهم، سعياً وراء مستقبلٍ أكثرَ سعادة، وتنافسية، ومعرفة، ورشاقة، وحرية، ونزاهة، تغطّيه مؤشرات عالمية وتشهد به التقارير الدولية.
khwazani@gmail.com
* أستاذ مشارك سياسات عامة كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية