المهندس سليم البطاينه
في محاضرة للسفير الأمريكي بعمّان Henry T .Wooster قبل عدة أيام في مركز الدراسات الإستراتيجية بالجامعة الأردنية قال Wooster أن التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والأردن يتجاوز الإدارات الأمريكية المتعاقبة قائلاً وبالحرف الواحد إننا تحالفنا مع الدولة العميقة في الأردن Deep State ، وهو تصريح ليس مألوفاً في عالم السياسة أن يصدر عن سفير دولة كبرى .. فقد سنحت الفرصة لي بأن أشاهد بعضاً من مقاطع محاضرته أرسلها لي أحد الأصدقاء.
فالعنوان مُرعب إذا ما تم فهمه وتم التعامل معه بسطحية ، والسؤال لدى عامة الناس ما معنى مصطلح الدولة العميقة ؟ وهنا أعيد طرح السؤال : هل لدينا في الأردن دولة عميقة ؟ فكل مرة نعود إلى نقطة الصفر لنواجه الأسئلة ذاتها رغم أنه لسنوات طويلة بقيت هذه الأسئلة تبحث عن إجابات في ظل كثرة السرديات التي تحاول الإجابة ، وبالتأكيد أنه مصطلح يتشابك مع مصطلحات أخرى مثل ( حكومة الظل أو الدولة الموازية ، أو دولة داخل دولة ) .. وقد كتبت مقالاً قبل ثلاث سنوات في صحيفة رأي اليوم اللندنية الغرّاء كان عنوانه ( الدولة العميقة في الأردن وَهم أم حقيقة ؟ ).
فكثيراً من دول العالم لديها دولة عميقة منها دورها إيجابي بحيث تُشكّل صمام أمان لحماية الدولة من إنزلاقها لمنحدرات خطرة ، ودولٌ أخرى لديها دولة عميقة لكن دورها سلبي فهي تُهيّء الأرضية المناسبة لضرب وتفكيك مؤسسات الدولة والمجتمع.
ولا شك أن البحث في البعد السيكولوجي لمفهوم الدولة العميقة يُحيلُنا إلى الجوانب الطاغية في عمق ذلك المصطلح ، فالدولة العميقة لا تظهر فجأة فهي تتكون عبر سنوات ، وتُدرك ما يجب أن يكون عليه المجتمع ( جسد بلا حراك وكتلة بلا روح ) وأن تتكلم والمجتمع يسمع وأن تأمر والكُل يُطيع ، وأن تُقرر والمجتمع يرضخ ، وأحياناً ما يجعلها قمعية تُظهر العين الحمراء للمجتمع حتى لا يتجرأ عليها.
فهي معيقة لا تهتم إلّا بمصالحها ، ولا تنشغل بمشكلات المجتمع ، فلطالما هي بخير فليذهب الجميع إلى الجحيم ، ولديها قدرة خارقة على الإستقطاب والإستدراج ، ولا تملك إلا تخويف الناس على حياتهم اليومية ، وتملك وسائل الترغيب والترهيب والإكراه ، وتزرع أيدولوجيتها للسيطرة على العقول .. فتركيبتها معقدة جداً ولا تترك مجالاً أو فضاءاً سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً إلا وغزته واكتسحته.. فالقانون في ظل الدولة العميقة كخيط عنكبوت تتعثر فيه الحشرات الضعيفة فيما تعصف به الوحوش الكاسرة ، وتنفيذ القانون يرتبط بالتعليمات الفوقية لا بقوة القانون ، والحكومات داخلها عبارة عن أحجار شطرنج.
ومن مهام الدولة العميقة دراسة سيكولوجية المجتمع للعمل على تغيب الوعي والعقل لدى الناس لمعرفة هل هذا الشعب عاطفي أم لا ؟ وهل يقبل بالفتات ويصبر ويتحمل ؟ فهي تتسم بالضبابية وجميع أمورها تسير داخل غرف مغلقة ، أي أن هناك أشخاص يديرون الدولة من الأسفل بعيداً عن سلطات الحكومة أو البرلمان.
لذا تجاوزت العديد من الدول العميقة مركزية القرار وأسّست لها مطابخ تُدير العمل مستعينة بمراكز دراسات وهياكل تنظيمية وإدارية وإشرافية إبليسية قد لا يعرفون بعضهم بعضاً.
مضى الوقت وتحرك التاريخ إلا أن الفكر المُغيب في الأردن بقي ثابتاً في مكانه وزمانه المطلَقين ، ومازلنا نُعاني من أزمة الحمقى ، ومازالت الأزمات تراوح مكانها وواقع الدولة عصياً وممانعاً للتغير والإصلاح وأصبحت لعبة الكراسي الموسيقية وتبادل الأدوار هي العنوان الأبرز ، وتمّ ترك اللاعبين يجيدون الأدوار المرسومة لهم على مسرح الأحداث .. فالأردنيون يُريدون إصلاحاً يرونه لا إصلاحاً يسمعون عنه ، وأزماتنا تحتاج إلى قراءة جديدة وأدوات جديدة لكي يحدث اختراق ليس في الأزمة بل في العقل الذي يدير الأزمة .. فالناظر لأحوال الساحة السياسية الأردنية يصل إلى نتيجة حتمية بأن جميع الفاعلين على الساحة لا يحملون مشروعاً متكاملاً ينهض بالأردن ويخرجها من حالة المراوحة وضعف الإنجاز والشواهد على ذلك كثيرة جداً.
وعودٌ على ذي بدء إلى محاضرة السفير الأمريكي أودّ هنا أن ألفت نظر السفير أن أزمة الأردن الرئيسية هي أزمة مشروع وطني يحمل الجرأة والقدرة على بناء دولة ذات هوية وطنية أردنية ترتكز على ثالوث ( الرؤية والقيادة والمؤسسات ) وبدون ذلك لا يمكن لمشاكلنا أن تُحل بل إنها ستظل تُنتجُ أزمات متتالية ، ولن يستطيع أحد ما كان موقعه أن يقنع الناس في هذه الأوقات بأن بلادهم تسير في طريق آمن يمكن أن يُفضي إلى وضع مستقر.
ولقد رأينا كيف علا صوت الجدل حول مصطلح الدولة العميقة التي وصفها السفير الأمريكي .. فذلك المصطلح أزعج نرجسية البعض ممّن بادر ومن تلقاء نفسه بنفي أن تلك الكلمة وردت على لسان السفير لعل وعسى أن يتذكره البعض بشيء ما في قادم الأيام كغيره من الذين خانتهم مواقفهم.
ولا يمكنك أن تقرأ فانتازيا كهذه إلا في الأردن ، فلسنا من الذين يعمّمون الأحكام ويتّهمون .. فالأردنيون في حاجة إلى استراحة محارب ، وإنكار وجود الدولة العميقة جريمة في حق البلد والمستقبل .. فعلى طول وعرض البلاد هناك غياب تام للعقلانية ، فبقرار شمولي جامع مانع صارت الحقيقة هي فقط ما يقولونه هُم ، ولا حق لنا في الرد ولا في المعرفة و لا في الكلام والتعبير.
فأي إصلاح للدولة العميقة لن يتأتّى إلا بضرب كل أنواع الفساد من رأسه دون هوادة أو موائمة ، ونقطة البداية هي كسر الإرتباط العضوي بين جماعات الفساد ، فالفساد في الأردن مكوِّن يقظ يملك جهاز مناعة ومقاومة لا نظير له يقيه من كل الضربات .. وشبق الأردنيين يذهب إلى أن التطبيع مع الفساد بلغ أقصاه ، فما أن تفيق من صدمة من صدمات الفساد حتى تصحو على صدمة جديدة أخرى ، فالأخبار المُحبطة غدَت كالأخبار العاجلة معظمها مؤلم ، ولا نستطيع أن نفعل شيئاً غير الصمت.