الأردن اليوم – دوماً أحاول أن أجد مسوغاً أو ألتمس جانباً من الفهم والمنطق في خروج الكثيريين من المسؤولين السابقين ودق ناقوس الخطر بشأن مخاوفهم المتعلقة بإستقرار البلاد جراء نخر الفساد لمفاصل الدولة ، ومن خطورة ما نحن ذاهبون إليه عسى أن يستجيبوا لصرخاتهم بالتوقف عن الإندفاع المتهور والمجنون نحو الهاوية .. فلا أجد جوابًا على ذلك إلا خوفهم وحرصهم على البلد وعلى النظام وليس خلط الأوراق كما يدّعي البعض من سكارى الغرور وزعاطيط السياسة.
ودوماً أسأل نفسي : هل يوجد في الأردن من يجرؤ على الكلام ويحترف السياسة ويقدم آراء من وقت لآخر؟ فعندما نتأمل تاريخنا السياسي في ستينات وسبعينات القرن الماضي نلحظ أن الأردن كانت تزخر بالعديد من رجالات الدولة الذين يؤمنون أن حاضرهم ومستقبلهم مرتبط عضوياً مع حاضر ومستقبل الأردن.
فالحديث عن إفلاس الدولة ليس بجديد فقد تجدد مرات عديدة خلال السنتين الماضيتين.
لكن أن يتحدث عامة الناس عن خشيتهم من إفلاس دولتهم فهذه الحالة تعطي دلالة على أمرين : إما الدولة في طريقها فعلاً نحو الإفلاس وتصفير خزينتها المالية لدرجة تخلفها عن سداد ما بذمتها من استحقاقات مالية داخلية وخارجية وعجز كبير في ميزان المدفوعات ! أو أن هناك حالة مُرعبة من فقدان الثقة بين جميع الأطراف ، وهذا برأيي لا يقل خطورته عن العجز المالي رغم أنه لا يوجد حتى الآن بالقياس وبالمعلومات المتوافرة بين أيدينا ما يُشير على عدم قدرة الدولة على سداد إلتزاماتها الخارجية والداخلية.
واستبعاد الإفلاس لا ينفي أن هناك مشكلة كبرى وخطيرة في الإقتصاد وإدارته !! فالجوانب المالية لا زالت في عزلة كاملة عن الإقتصاد الحقيقي.
وما زال الهيكل الإقتصادي الأردني تابعاً وضعيفاً وغير قادر على مواجهة الأزمات التي تطل علينا بأشكالها اللامتناهية والتي تأبى أن تهدأ ، إذ لا يعتمد الإقتصاد الأردني على مصادر إنتاج حقيقية بل على مصادر لا تصمد ولا تدوم ( المساعدات والمنح والإقتراض ) وكلها مصادر لا ترتبط بدائرة الإنتاج .. علاوة على أن الإقتصاد الأردني كان ضحية لحقبة طويلة من سنوات الفساد.
وهذه المرة تجيء نُذر إفلاس الدولة من كل صوب وحدب ، بدأ الأمر بتصريحات من أحد وزراء المالية السابقين ، ومن وزير عمل أسبق ، ومن وزير المالية الحالي الدكتور محمد العسعس الذي بشرنا بأن الحكومة مضطرة لإتخاذ قرارات مالية مؤلمة قريباً.
لكن التصريح المفاجىء والأكثر جرءة كان قبل يومين من قبل رئيس الوزراء السابق طاهر المصري الذي أخذت تصريحاته أبعاداً مُتدحرجة داخلياً أشعلت جدلاً وضبابية في مواقع التواصل الإجتماعي والإخباري ألقت بظلالها على المشهد الداخلي وزادت من ارتباكه والتداخل في تفصيلاته والتي حذّر فيها من خطورة توجه الأردن نحو الإفلاس.
لا شك لدي أن ما قاله المصري كان عن حسن نية ومن باب خوفه وحرصه على البلد ، ولم تكن تصريحاته مفاجئة لأحد ، حيث يمر الأردن بأزمة اقتصادية حادة منذ سنوات ، فالمصري صادق مع نفسه ومع الناس ، ودوماً يقول الحقيقة لا سواها ، وما ورد على لسانه ومن قبله مجموعة من المسؤولين السابقين هو كلام موضوعي .. وفي قراءة النوايا يأتينا الجواب ويؤكد أننا نسير في الإتجاه المعاكس كلياً.
فالواقعية تتطلب محاكاة الواقع بالمنطق لا عبر تزييفه وتزييف وعي المجتمع وإرهابه فكرياً وتحطيم إرادته وحمله على الإستسلام للأوهام .. فقضية إفلاس الدولة تحتاج إلى ضبط المصطلح وتعريفه ، فالموضوع ليس بهذه البساطة لأن كل شيء سيتولد عنه مجموعة من الأسئلة والتفرعات ، حيث أن المتاهات زاد عددها والقضايا المُعقدة لا تُحل إما أن يتم ترقيعها أو تؤجل.
فلا يمكن لنا أن نعيش في حالة إنكار ، والحقيقة لا يمكن تجاهلها ، فالأردن يعيش أسوأ أزمة اقتصادية بتاريخه ، وهذه الأزمة تتمظهر في انعدام إرادة سياسية شاملة للنهوض بالإقتصاد والقطاعات الأخرى .. فالوضع السياسي والإجتماعي الهش لا شك أنه يترك أثراً سلبياً في وضعية الإقتصاد .. وغالباً ما يكون الحكم الإئتماني على الدول من خلال ناتجها المحلي الإجمالي مع الأخذ بالإعتبار الحجم العام للدين العام.
كما يمكن تعريف إفلاس الدولة ب ( الأزمة في ميزان المدفوعات ) ، والدولة المفلسة هي الدولة التي تحكمها قوى اللادولة وتعيش في وهم الشعارات.
وهكذا تلوح في الآفق بعضٍ من الأسئلة المزعجة ، وإنها أقرب إلى نذير لمن يقرأ فنجان الغد .. فتداول وصف الواقع الأردني بشكل عام لا يسُر الخاطر ، ووصفنا أننا دولة قوية ما هو إلا وصف صحفي فقط وليس تشخيص لواقع الأزمة التي نمر بها ، فلم يعد بالإمكان أن نُجامل أنفسنا ، فمفهوم الدولة القوية يعتمد على مجموعة من المؤشرات الاقتصادية والسياسية تُحدد على أساسها معايير تصنيف دول العالم تنازلياً.
فلا يحزنني من لا يفهم فسيأتي اليوم ويفهم ، فكثيرون يعرفون حقيقة ما يجري ويلوذون بالصمت ويغضون الطرف ، وما زالت تصريحات رئيس الوزراء السابق طاهر المصري التي أدلى بها مؤخراً موضوع نقاش بين المواطنين وهنالك محاولة لإطفاء وهج البلبلة التي أحدثتها .. فالخوف من النقد دليل على خلل وضعف في الثقة في النفس ، لا بل ضعف في العقل ، فما يخاف النقد إلا ضعيف أو عاجز.
أفلست أم لم تُفلس ؟ فمن حق المواطن أن يعرف الحقيقة لا أن يتم إخفائها والتعتيم عليها ، فالظواهر تعكس نفسها ، والمطلوب مغادرة مربع الإنكار .. حيث يخاف الأردنيين من انتظارهم مصيراً مؤجلاً !