قطاع النقل : الواقع المُزري والأمل المفقود .. ضريبة المحروقات تمنع وتُعيق تطوير النقل العام

المهندس سليم البطاينه

 

لا يسعني أن ألتزم الصمت حينما يتعلق الأمر بملف قطاع النقل بشكل عام ، حيث تجذر اليأس من أي إحتمالية من تطويره والنهوض فيه .. فهل يعقل لدولة تجاوزت المائة عام من عمرها تظل مكبلة الأيدي ولا تُعير أي إهتمام لتطوير نقلها العام خوفاً من تناقص الضرائب المستوفاة عن المحروقات.

فلا يختلف إثنان من المواطنين على أن قطاع النقل قطاع مترهل بطيء الحركة يعاني من التخلف .. والناس في غنى عن بصر وبصيرة زرقاء اليمامة لكي يدركوا ذلك.

إن النقل العام في أي دولة من دول العالم يقف على رأس القطاعات التي تدعم الهيكل الإقتصادي والإجتماعي ، ويُسهم في إحداث التغيرات الإجتماعية في المدن ، علاوة على علاقته بدائرة الإنتاج والتوزيع كونه أبرز القطاعات تماساً مع المواطنين وشرياناً مهماً لعجلة النشاط الإقتصادي الوطني الذي يسير حياة الناس ويقلل التكاليف عليها.

وباص النقل العام هو أحد العلامات المميزة لأي دولة لأنه يجسد تاريخ وثقافة ومؤشرات التحضر في كل دولة .. وفي أعتى الدول الرأسمالية الباص العام والقطار ، والمترو ، والتّرام السطحي تعتبر أحد ركائز النقل الداخلي ، مما يجعل المواطن ليس في حاجة إلى اقتناء سيارة.

على أي حال التحديات لا تأتي بالتأشير عليها فقط ، والإستمرار بالنهج الجبائي الموحش حوّل الدولة نفسها إلى ما يشبه مؤسسة ربحية ، فالأردنيون يدفعون ما بين ٥٠-٦٠ قرش عن كل لتر بنزين يشترونه وهي ضريبة ظالمة إذا ما قورنت مع مستوى الدخل العام للمواطنين.

والبنك الدولي من جهته اعتبر أن ملف النقل العام في الأردن يشكل خيبة أمل ! وحذّر من أن هناك حوالي مليون ونصف سيارة ستحتل الشوارع في عام ٢٠٢٥.

وأكد في دراسة له ان كمية البضائع التي من الممكن أن تستوعبها شبكة السكك الحديدية ( في حال إنشاءها ) تقدر ب ( ٢٦ مليون طن من البضائع المختلفة ) ، وأن هنالك مليون و ٢٠٠ ألف شاحنة تعبر الأردن سنوياً .. و ٩٦٪؜ من احتياجاتنا النفطية تدخل عبر الشاحنات ، ومصانع الإسمنت جميعها وشركة الفوسفات تنقل سنوياً حوالي ٧ مليون طن نصفها بالشاحنات والنصف الآخر عبر السكة القديمة.

وهذا يؤكد أن حجم النقل يثبت جدوى إنشاء السكك الحديدية لنقل البضائع أولاً ومن ثم الركاب ، فالنقل عبر القطارات أكثر كفاءة من النقل عبر الشاحنات من حيث كلفة الوقود المستخدم ( فلكل طن من البضائع المحملة في القطار ١٠-٢٠٪؜ من كلفته إذا ما تم نقله بالشاحنات ، عداك عن تكلفة صيانة الطرق والبنى التحتية جراء ذلك ).

هذا الأمر يجعلنا نفتح قوساً لنتساءل : أين يكمن الخلل ؟ ولماذا لا يُستغل فائض القدرة التوليدية للكهرباء من المصادر المتجددة ؟ ذلك حسب تصريحات طيبة الذكر الوزيرة السابقة للطاقة ( هالة زواتي ) ونقوم بإنشاء شبكة السكك الحديدية وتشغيلها بواسطة الكهرباء ؟ وأن تضمن الحكومة كفاية التمويل للبنية التحتية.

والحقيقة أن قطاع النقل في أزمة عميقة ، والدولة كانت وما زالت لا تعتبر النقل العام ذا أولوية كالأمن والدفاع ، وإن كانت الأزمة ظاهرياً إقتصادية لكن جذورها ترجع إلى التخبط وسوء التنظيم .. فحقيبة وزارة النقل أصبحت جائزة ترضية لمن يفوز في السباق فهناك ٢٥ وزيراً منذُ عام ١٩٩٩ وحتى الآن ( منهم من أبلى بلاءًا حسنًا ، لكن غالبيتهم دخلوا وخرجوا ولم نعرف اسماءهم ) .. فعلى سبيل المثال ، الوزير الحالي للنقل يقول أنه غير قادر على حل مشكلة تطبيقات النقل الذكية ، وبإعترافه أن هنالك ٤٠ ألف سيارة غير مرخصة و ٢٥ تطبيق إلكتروني غير مرخص.

اليوم نرى التطور في الدول المجاورة تسابق الريح ، وفي الأردن ما زلنا نبحث عن المعطلين للتنمية ونطلق الوعود هنا وهناك .. فقد تم أطلاق مئات الوعود في شتى مجالات التنمية وتم أستهلاك الكثير من المفردات والشعارات التي أُفرغت من معانيها بشكل أهتزت معها الثقة .. فعلى ما يبدو أن الإصلاح السياسي والإقتصادي الذي يستقبل فيه الأردن مئويته الثانية ما هو إلا استمرار لما انتهت اليه المئوية الأولى.

للأسف الأردن اليوم يعاني من تضخم سياسي وعجز تنموي وتخبط اقتصادي ، ومرتبته في مؤشر السعادة تنسجم مع الواقع المُزري للمواطنين ، فهم اليوم واقعون بين حجري الرحى بين متطلباتهم المعيشية وبين أحلامهم التنموية.

فالطلب على المحروقات في ظل عدم وجود نقل عام محترم يزداد سنوياً بنحو ٤،٩٪؜ نتيجة دخول حوالي ١٠٠ ألف سيارة جديدة سنوياً .. والحكومة تتقاضى عن بيع ما يقارب ٤،٩ مليار لتر من المشتقات النفطيه ( من الشركات الثلاث ) .. فالضريبة المقطوعة على المحروقات تتجاوز قيمة السعر الأصلي للمشتق النفطي .. فعلى سبيل المثال الضريبة المقطوعة على بنزين أوكتان ٩٥ تبلغ ٥٧،٩ قرشاً ، وبنزين أوكتان ٩٠ بحدود ٣٧ قرشاً ، والكاز والديزل ١٦،٥ قرشاً ونصف.

عمومًا هيبة الدولة في الشارع وليست خارجه ، إذ لا يحتاج المراقب إلى تدقيق كي يرى مدى سوء الأوضاع في قطاع النقل، وفوضى السير والإختناقات المرورية في المدن والشوارع تعني أن البلد بلا هيبة ، وهذا لا يحتاج إلى دليل أو برهان .. فهيبة الدولة ليست في الشرطي أو الدركي أو في سيارة الجواد بل في وسيلة نقل عام نظيفة صالحة للاستعمال يجد فيها المواطن ضالته.

فلا أدري كيف تم تحويل آلاف الكراجات في الأبنية السكنية والعمارات إلى محلات تجارية جعل الشوارع على ضيقها كراجات بديلة.

أترضون أن يبقى الوضع هكذا والعالم من حولنا سبقنا بأشواط ؟ فتجارب النجاح المختلفة في شتّى أنحاء العالم أثبتت أن التحول من الفقر إلى الرفاهية والتطور لا يتطلب ثروات ولا موقعاً جغرافياً خاصاً بقدر ما يتطلب أرادة سياسية جادة ، واعتماد نموذج تنموي ونهج يأخذ بعين الأعتبار المشاكل الكبرى للأردن.