الأردن اليوم – النكبة، في المعجم، هي «مصيبة مؤلمة توجِع الإنسانَ بما يعزُّ عليه من مالٍ أو حميمٍ». ويقابلونها في الإنجليزية بما يعني «الكارثة». وتوحي هذه المعاني بأن النكبة حدَث يمكن تجاوز آثاره – وربما تصحيحها. فإذا ضرب زلزال كبير بلداً، يغلب أن ينهض ويتعافى بعده. وحتى لو ضربت قنبلة ذرية مدينة وسوتها بالأرض، فإن الحياة يمكن أن تنبت من أنقاضها وتزدهر. حدث ذلك في هيروشيما ونغازاكي.
لم تخرج النكبة الفلسطينية في أساسها كثيراً عن هذه المعاني. كان الفلسطينيون يعانون بشدة من الاستعمار البريطاني الغااشم، ثم جاء المشروع الصهيوني فوجه إليهم ضربة هائلة – وليست قاتلة في الحقيقة- أوجعتهم بكل ما يعز عليهم من مال وحميم. فقدوا استقرارهم وأملاكهم وُهجروا تحت سياط الرعب. ولكن، كما هو طبع النكبة، بالتعريف، كان إيمان الفلسطينيين المكلومين الذين يتعافون من الصدمة هو أنهم سيصححون آثار النكبة ويعكسون تداعياتها ما داموا أحياء ويتوالدون. كانت مسألة أنهم أصحاب حق أُخذِ بالعنف والجَبر تجعل من استعادته شأناً أخلاقياً وحتمياً وطبيعياً.
لكنّ ما حدث، في خدمة أسطورية أبعد أحلام المستعمرين الصهاينة، كان شيئاً أكثر شراً من أن تصفه الدلالة المعجمية لمفردة «النكبة». وقد لخصه الناشطان «الإسرائيليان»، إيتان برونشتاين أباريسيو؛ وإلينور ميرزا برونشتاين:
«بعد التوسع الاستعماري الكبير في العام 1967 اختفت النكبة من الخطاب في إسرائيل تماماً. تم محو الاحتلال والتهجير اللذين حدثا في العام 1948 من الذاكرة الجمعية بعد الغزو الجديد. وأصبح ’الاحتلال‘ مفهوماً مرتبطاً بالتوسع الذي حدث في العام 1967 حصرياً، وهي رؤية ما تزال تتبناها الغالبية الساحقة من اليسار الإسرائيلي، حيث يتحدث اليسار الصهيوني عن 48 سنة من الاحتلال فقط، وسيتحدثون قريباً عن 50 سنة، في حين يجب إضاقة 20 سنة فعلياً حتى يأخذ التاريخ حقه».
مفهوم. سوف يخدم إنهاء خطاب فلسطين التاريخية واستبداله بفلسطين المختزلة أفضل ما يكون مسعى المستعمِرين. لكن القاسي وغير الطبيعي هو أن يصادق على هذا التدبير ويساعد هذا المسعى العرب الرسميون وآخرون، ومعهم «فلسطينيون». ويعني الإقرار بهذا الخطاب الجديد أن نكبة 1948 ينبغي نسيانها وكأنما لم تُكن. ينبغي الاعتراف بشرعية وجود الاستعمار في أرض الفلسطينيين التي انتزعوها منهم بالقوة في العام 1948، والإقرار للغزاة بملكيتها والكف عن المطالبة بها، في مقابل وطن صغير محاصر يكون هو «فلسطين»، مرة وإلى الأبد.
يعني هذا عملياً الإلغاء النهائي لفلسطينية أصحاب الغالبية العظمى من فلسطين التاريخية –سحب جنسيتهم وقطع علاقتهم بجذورهم. وهو حتماً أكبر من «نكبة» يمكن النهوض منها، لأنه يلغي شرعية المحاولة ومبررها. إنه يعني، بتجريد الفلسطينيين المعنيين من هويتهم التاريخية، إنهاء وجودهم بما هم، وحيث يعني أي مسمى هوياتي آخر إعداماً للفلسطينيين الذين لن يعودوا كذلك وإخراجهم من التاريخ. إنه حكم بالقتل الوطني والفردي.
إن ما يبقي النكبة مجرد نكبة ينبغي أن تكون فصلاً سيئاً من الوجود فحسب، هو ما كتبه – في مفارقة- المؤرخ «الإسرائيلي» إيلان بابي، متحدثاً عن مذبحة الطنطورة: « يتوجب علينا ألّا ننسى أن هذه المجزرة هي جريمة من سلسلة ممتدة من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل منذ سنة 1948، وما تزال مستمرة في ارتكابها حتى يومنا هذا؛ وهي جرائم ما تزال تواجَه بالإنكار (…) إنه لأمر أساسي وحاسم أن نعي أن النهاية الوحيدة الملائمة لإيقاف هذا الإجرام المستمر تكمن في نزع الاستعمار عن فلسطين التاريخية كلها، وتطبيق حق العودة. في فلسطين حرة، وديمقراطية، وتاريخية، ربما تكون فكرة بناء نصب تذكاري في قرية الطنطورة خطوة ذات مغزى للتذكير بما حدث على أرضها في الماضي».
ولأن الفلسطينيين لا يستوعبون أن تتحول النكبة إلى إلغاء، كقرار وجودي يفصل بين الفناء والبقاء، إن وجودهم يعادل بالضبط انتماءهم إلى فلسطين التاريخية، سواء كانت أسيرة أو محررة. والتمسك بشراسة لا تعرف الهوادة بهدف تصحيح آثار النكبة وإحالة فصولها إلى نصب تذكارية من الماضي. ولا تستطيع أي قوة في العالم، ولا أي توصيفات وخطابات، أن تقنع الفلسطينيين التاريخيين بالانتحار الوجودي، ولا أن تجبرهم عليه بغير إبادتهم حتى آخر فلسطيني – فيزيائياً – وهو مرادف المستحيل. إنهم يتذكرون النكبة، وإنما كألم فظيع يوجع فقط، وإنما لا يقتل.