كتب أ.د عبد الرزاق الدليمي
لقد مر عدد من البلدان النامية بإرساء الديمقراطية منذ الثمانينيات. ومع ذلك ، لم تؤد الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي بالضرورة إلى ديمقراطيات راسخة. غالبًا ما فشلت المؤسسات الديمقراطية المنشأة حديثًا في حل النزاعات بين المجموعات المجتمعية المختلفة ، وحاولت بعض المجموعات الانحراف عن المؤسسات الديمقراطية. في بعض الحالات ، تآكلت المؤسسات الديمقراطية تدريجياً وعادت الأنظمة الاستبدادية. يهدف هذا المشروع البحثي إلى تصنيف إخفاقات الديمقراطية وإيجاد آليات سببية لهذه المشاكل من خلال دراسات الحالة المقارنة.
كان الجهل ولايزال يعتبر تهديدا للمجتمعات البشرية سيما الأنظمة الديمقراطية ، لذلك لايمكن ان نتوقع لمجتمع جاهل ان يبني حضارة ولا يمكن لامة ما ان تكون جاهلة وحرة في ذات الوقت، وفي مثل هذه المجتمعات فأن اغلب المواطنون لايطلعون على الحقائق كما أن آرائهم متقلبة للغاية لتوجيه عملية صنع القرار ان كانت هناك حكومة ديمقراطية،كما أن أداء المواطنين سيكون بمستوى أدنى عقليا عند دخولهم النشاط السياسي، ورغم أن التطور السياسي لدى الجماهير محدود وضعيف نسبيًا خلال عقود عديدة في الانظمة السياسية التي تقوم على حكم الشعب ، فأن جهل المواطنين كان وسيبقى اشكالية خطيرة جدًا تهدد مسار الديمقراطية .
ان الجهل والنقص في المعرفة السياسية والكفاءة تشير في الواقع إلى تهديد كبير للممارسات الديمقراطية، كذلك تتعرض الأنظمة الديمقراطية للتهديد أيضًا من قبل نوع مختلف من الجهل الذي يمكن أن يترسخ في قلب السياسة والذي يجعل التفكير في الغموض والتوترات في السياسة الديمقراطية أمرًا يصعب التغلب عليها تمامًا، في واقع تجارب كثيرة في العالم ، لوحظت مثل هذه التوترات مرارًا وتكرارًا لتمييز الديمقراطية الليبرالية ، التي تُفهم على نطاق واسع على أنها نظام يجمع بين عنصري الليبرالية والديمقراطية ويمكن أن يتخذ أشكالًا ملموسة مختلفة، وعلى وجه الخصوص ، في حالة النماذج الديمقراطية المتمثلة في منح السلطة للشعب والعنصر الليبرالي المتمثل في تقييد كل استخدام لتلك السلطة وهذا يؤدي حتمًا الى خلق بؤر التوتر داخل تلك الانظمة السياسية.
الجهل هو في الأساس حالة مناقضة للرغبة في المعرفة،حيث يفضل الشخص عدم اكتشاف جوانب معينة من العالم وبالتالي المطالب التي قد يواجه بها العالم نفسه، فالانسان الجاهل يزرع في ذهنه قناعة أنه يمكن أن يبعد نفسه عن التوترات التي تحدث في بيئته وخارجها ولا يريد ان ينغمس فيها، مثل الزوج الذي لديه سبب للاشتباه في أن زوجته تخونه لكنه لا ينتهز الفرصة لتحقيق اليقين في هذا الأمر. وهكذا يمثل الجهل نمطًا من الوجود لا يرغب فيه المرء في كشف ما قد يكون غير مريح أو مخيفًا.
الأهم من ذلك ، أن وضع الجهل يختلف عن عدم معرفة شيء ما أو أن تكون مخطئًا بشأن شيء ما، بل إنه مرتبط بالرغبة بمقاومة الذات لما يحدث في العالم ، هناك افتراض يكيف العلاقة بين ما تريده الذات الانسانية وكيفية ارتباطها بالعالم ، فالمعرفة الآن ليس بما موجود ، بل هي معرفة ما أريد، ومع ذلك ، فالجهل يعني عدم رغبة الفرد في أن يكون جزءًا من العالم ،فذات الفرد هنا هي أن تعيش في وهم يتعين عليها ان لاتهتم بعلاقاتها بالعالم، وتجنب تحدي رغبات المرء وربما تغييرها استجابةً للعالم .
الجهل يمثل في التفسير الوجودي طريقة للوجود والرغبة في أن تكون جزء في العالم. الأمر نفسه ينطبق على الحقيقة المعاكسة لها ، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالرغبة بمعرفة مايدور في العالم، رغم وجود بون شاسع بين الحقيقة وما ينقل الى الافراد بالواقع ، فالحقيقة هنا هي عملية إفصاح عما يحدث ولكن بصورة غير مكتملة ، أي انها تترك على الدوام شيئًا مخفيًا ، إن عملية الإفصاح هذه دائمًا ما تكون مقصودة، كل فعل يكشف عن العالم ينتج عن مشروع للذات لدى البعض، وتوقع للعالم ودور الذات فيه،علما ان لكل أفعال ونوايا يبنيها على افتراضات معينة حول العالم مسؤولا عنها وقد يتمكن من التحقق منها أو لا.
بهذا الافتراض فأن الحقيقة هنا مثل الجهل ، ترتبط بطبيعة الرغبات لان اكتشاف الفرد عن ما هو في العالم ناتج من توقعاته ، هذه التوقعات ليست فرضية منفصلة ومحايدة،بل هي نتاج ، لتوظيف الخلفيات الذهنية والخبرات التي تتوافر لدى كل فرد ففرضية كل انسان تنبع من ما يريد كشفه عن العالم وهي تعتمد على الاهداف والغايات التي يعرضها فيه ، وبالتالي يتجاوز الواقع القائم بطريقة معينة ،هذه التوقعات على الاغلب محفوفة بالمخاطر، لان اصحابها يمكن ان يصطدموا بالعالم لأن توقعاتهم للواقع قد تكون خاطئًة… هذه النتيجة (الخاطئة) قد لاتكون عكس الحقيقة ،الا إنها شرط مسبق وخطر دائم للكشف عن الحقيقة ، قد يكون الفرد مخطئًا بشأن فهمه للعالم الا ان بحثه عن الحقيقة عنه،هي الطريقة السليمة لاكتشافه ذلك الخطأ ، ان هذه العملية الديناميكية ،هي عمل منفتح عن العالم للكشف الحقيقة لانها عملية مستمرة كون الحقيقة في حركة دائمة ، والخطأ ببساطة هو توقع خاطئ يؤدي إلى توقعات اخرى مختلفة.
تتميز الحقيقة (على عكس الجهل ) بالاستعداد لكشف النقاب عن مايحدث في العالم، والاعتراف بإمكانية حدوث وقائع غير متوقعة ومواجهة الحاجات غير المرغوب فيها التي يطرحها العالم الحقيقي، لذلك فاعتناق الحقيقة هو دائما بمثابة مغامرة، ويتم اختبار الحقيقة أو عيشها كخطر او جهد او مخاطرة سيما عندما تكون هذه هي الحالة التي يمكن للفرد أن يخطئ ، ويمكنه أن يجرب نفسه كمشروع خاص به ، من المنطقي سايكولوجيا أن نتحدث عن الحرية، وتوقع شكل العالم ، وان نختار ذاتًا معينة ، بدلاً من أن نكون ذاتًا أخرى وبالتالي نتحمل المسؤولية،وهذا يعني في النهاية اقرار أنه لا حرية بدون حقيقة ولا حقيقة بدون حرية ، الحرية تفترض أن نكون مستعدين لقبول وتحمل المسؤولية عما نرسمه من مشاريعنا ؛ وكأننا نفترض العالم كما لو كنا نحن قد خلقناه.