كتب محمد حسن التل
العشيرة مؤسسة اجتماعية قائمة على التعاضد والخير، يرحم كبيرها صغيرها ويوقر صغيرها كبيرها، ويساعد القادر غير القادر وتحمي جارها، هي عائلة كبيرة وممتدة، ومفهوم العشيرة مختلف تماما عن مفهوم العشائرية، فالأخيرة تعصب وتحيز مهما كان الخطأ، وتمسك بنصرة المخطئ مهما كان خطأه، وهنا يقع اللبس والخلط بين مفهوم العشيرة المحترم وبين ذلك المفهوم الذي أساء لمؤسسة العشيرة.
نحن في هذا البلد نسعى منذ عقود أن يكون لدينا دولة مدنية، وقطعنا شوطا كبيرا في هذا المضمار، من خلال بناء مؤسسات القانون وسن التشريعات والقوانين التي ترسخ هذا المفهوم، ولكن نكتشف فجأة عند وقوع بعض الأحداث والنزاعات أن الطريق لا زال طويلا أمامنا ويتضح أن القانون يقف عاجزا مقابل عادات وتقاليد عفى عليها الزمان عند الكثيرين من غيرنا، فلا يمكن للفرد أن يستوعب كيف نتحدث عن دولة مدنية وسيادة للقانون وحياة حزبية ولازال مفهوم الجلوة أو مفهوم فورة الدم وغيرهما الكثير من العناوين التي تتجاوز على القانون ماثلة في حياتنا، مفاهيم لا تؤدي إلا إلى خراب البيوت وتدمير المجتمع وتقطيع أواصر القربى والجيرة والرحمة، والإساءة للقانون، عندما يتم التطاول عليه كما أشرت من أجل عادات وتقاليد بات من الضرورة التخلص منها.
القانون يجب أن يكون حاضرا في كل تفاصيل حياتنا، ولا يجب أن يسمح لأحد مهما كان أن يتطاول عليه أو يتجاوزه، لأنه المسطرة التي تجعل الناس على خط واحد في الحقوق والواجبات، وفوق هذا كله الشرع الإسلامي الحنيف يرفض ويجرم العادات التي لازالت تتحكم بالمجتمع، وتحاصر تقدمه وسعيه نحو الحضارة، يقول العظيم في محكم تنزيله “ولا تزر وازرة وزر أخرى” وهذا رفض واضح وصريح لمفهوم الجلوة والاعتداء على الأبرياء، هذه المعاني التي باتت مرفوضة تماما عند كل صاحب وعي في مجتمعنا، لأنها ما خلفت وتخلف إلا خراب البيوت وقتل مستقبل الشباب وترويع الأطفال وقطع الأرزاق، لذلك بالمفهوم العام للمنطوق الإلهي العظيم أعلاه أن المجرم هو وحده من يتحمل مسؤولية فعلته وجريمته، ولا يمتد القصاص إلى غيره من عائلته ولا يقوم بالقصاص الا ولي الأمر، وفي مفهمونا المعاصر الدولة.. والا تحولنا إلى قانون الغاب، والقرآن العظيم زاخر بالآيات الكريمة التي تحدد العقاب والحقوق في حالة القتل بأطر واضحة لا لبس فيها.
إذا نحن بتمسكنا بهذه العادات والتقاليد والسكوت عنها فإننا نتجاوز القواعد الإلهية أولا ، ثم نتجاهل مفاهيم المجتمع والدولة المدنية وسيادة القانون الذي يجب أن يسود دائما ، وإنهاء كل العادات والتقاليد التي تتعارض أولا مع الشرع ثم معه ، وترسيخ مفهوم الدولة الحضارية التي لا تعترف بأخد الخواطر ولا ترضى التمييز بين مواطنيها وتتعامل معهم من خلال المفهوم النبوي الشريف “الناس سواسية كأسنان المشط ” وهل هناك مدنيه أكثر من هذه القاعدة الخالدة ..كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام العصبية بالنتنة، عندماقال “دعوها فإنها منتنة”.
الدولة المدنية لا تعترف إلا بالحقوق والواجبات ، دولة لا كبير فيها أمام القانون ولا انتماء فيها الا للمجموع الوطني ، الم تأتي القومية العربية لتؤكد أن الانتماء للأمة يكون بالانتماء للوطن الام والمجتمع الام والعمل على بنائهما واستقرارهما حتى يكونا قاعدة الانتماء للأمة بعيدا عن التمترس خلف عصبية ضيقة لا تجعل الفرد يرى إلا غضبه وولائه الضيق وحبه للانتقام دون تفريق بين الصح والخطأ.. الانتماء والولاء للقيم الكبرى يجب أن يحكم المجتمع أولا حتى يكون جاهزا لأن يكون لبنة في مدامك الامة للدفاع عن قيمها والنضال من أجل غاياتها العليا.. إذا لم نؤكد هذه المفاهيم بصدق كيف سنهيىء المستقبل للأجيال الصاعدة والقادمة ، وكيف ستتطور دولتنا بمفاهيم عصرية تكون داعمة لها في المضي نحو المستقبل الذي نتحدث عنه ، وإلا سنكون كذلك الذي يحرث البحر وبإرادته ، مرة أخرى الفرق كبير.. والبون شاسع بين ،مفهوم العشيرة ككيان اجتماعي ومفهوم العشائرية الذي يحتوي على العصبية والتعصب البغيض..
لازال النداء النبوي يدوي من خلف القرون..
“يا فاطمة بنت محمد إعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا ..إلى آخر الحديث الشريف عندما قال .. لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم…””
وهذا أعمق دليل على أن الإنسان بعمله لا بنسبه..
إن لم ننتبه لما يحدث في مجتمعنا من تناقض ما بين التنظير والواقع فستتوه البوصلة ، ولن تكون صوب الحضارة والمدنية بالتأكيد .