كتب د. بسام الساكت
لقد أنعش ذاكرتي كتاب هام وجدير بالعناية ،للدكتور اشرف عتوم حول : العلاقات الاردنية الاميركية 1973-1999، ولغاية الإفادة ، استرجعت بعض مابحثت في رسالتي للدكتوراه عام 1976 في بريطانيا ، حول المساعدات الخارجية للاردن1924 -1973- ذلك تقْدِمةً للحديث هنا عن الكتاب الجديد :
1- منذ 1894 حتى الحرب العالمية الاولى كان شرق الاردن Trans -Jordan جزءا من الامبراطورية العثمانية في قطاع سوريا .
2-وبعد تقسيم الامبراطورية العثمانية، سيطرت بريطانيا على اقليم الاردن. وطوال الحرب الكونية الاولى ،اعطت بريطانيا للعرب “وعودا” متناقضة: للعرب وفلسطين الاستقلال ،ولليهود بيت قومي في فلسطين .
3- وفي عام 1920 بعد أن تآمرت القوى العظمى ، على الدولة العربية الي اسسها الملك فيصل في دمشق ،اجتمع المفوض السامي البريطاني بشيوخ ووجهاء الاردن في مدينة السلط ، وأَعلَنَ :”ان الحكومة البريطانية ترحب بنظام وحكم محلي تحت الحماية البريطانية ، يتولى فيه الملك عبد الله الاول زمام إمارة شرق الاردنTransJordan -a By-Product of International Politics وذلك لموقع الامارة الاستراتيجي الجغرافي والسياسيGeo-Politics .
4- وبنظري كان قبول الملك عبد الله الأول التسوية، قرارا عاقلا ذكيا بعيد النظر ،حافظ به الملك على الارض والهوية . ذلك ان البديل والرفض، كان من الممكن ان يكون طامة كبرى . إنها كانت ” تسوية عاقلة من الجانب العربي”، رغم انها نتاج معادلة دولية صاغها أقوياء{بريطانيا وفرنسا } . ولضمان استمرارية الادارة في البلاد ، قدمت بريطانيا دعما سنويا للموازنة لتسيير اعمال الاداره والجيش .
5- فالمساعدات إذن ظاهرة قديمة في التاريخ الاقتصادي السياسي للاردن مذ نشأته، ضَمِنَ فيه موقع الاردن للبلاد تدفقاً مساعدات من الغرب الذي يعتبر الشرق الاوسط ضمن مناطق نفوذه ومصالحه المالية والسياسية . فدافع المانحين، كانت مصلحتهم السياسية ، قبل اي شئ .
6- إن كتاب د اشرف عتوم عن العلاقات الاردنية الاميركية، كتاب غنيٌ بالمعلومات عن “واسط” البناء الاقتصادي للمملكه الا وهو المساعدات الخارجيه .ويُعَدُّ الكتاب مرجعا جديدا عن علاقات الاردن بالقوة العظمى اميركا ،عبر مرحلة هامة من تاريخ المملكة .
7-كان الكاتب صريحا في تحليله دون إثارةٍ او الدخول في غور بعض الامور بارتجالية .و لديه شجاعة مهنية في بحث موضوع هام ،المعلومات عنه مجزأة ومحدودة . ويؤكد الكاتب ان دوافع المساعدات الاميركيه للاردن سياسية بحته، رغم قناعته- دون توضيح كافٍ – ودفاعه عن “جانب من برامج الدعم الاميركي المسمى “المناطق الخاصة التنموية المؤهلة” . فبرأيه أنها طوّرت قاعدة صناعية صلبه .
أما دور الاردن بنظره ،وفي ظلال هذه البيئة الضاغطة ،فهو دور المُهدِّئ بالمنطقه ، واقَرَّ بأن للمساعدات دور ضاغط على السياسة الخارجية المستقلة للاردن وكابح لها . ولم يكن الدعم كرماً من اميركا ، بل دوافعه سياسيه لا تنموية. : ومن قراءتي الخاصة للموضوع أرى التالي :
اولا : لقد جسّرت المساعدات ، مرحليا ، الفجوة في الاقتصاد الوطني بين الادخار والاستهلاك”، ورفعت معدلات نمو الدخل الوطني.
ثانيا : وطوّرت قطاع الخدمات “. لكنها أخلَّت بالحافز الجدِّيِّ عند ادارة الدولة لتطوير مصادر تمويل محلية ( السندات المحلية والاوراق المالية ، وفضيلة حسن التدبير والادخار ) .بل ان مساعدات الخزينة كرَّست انتفاخات في الانفاق الاداري اصابت ادارة المالية العامة بالترهل وحافظت على نمو الانفاق للحكومة، وغطت عجوزات الموازنة، واعاقت الخروج المبكر من هذا المأزق الانفاقي .
ثالثا: للمساعدات دور بتأجيل التطوير الضريبي وعلاج الازدواجية والتفاوت التنموي بين الافراد والمناطق .. Economic and Social Dualism .
رابعا: لا شك ان المساعدات الاميركية ساهمت في تطوير قطاع “الخدمات” وبالذات التعليم والصحة والخدمات الزراعية والنقل ، بما ينسجم مع الميزة النسبيه للاقتصاد الوطني .وهذا امر ايجابي .خامسا: تمثل المساعدات تدفقا نقديا ،و سلعيا ، وخدمات . إنها من ادخارات الاخرين ،تحتاج من الدول المستلمة لها الحصافة وحسن التدبير . لقد ساعد هذا التمويل الخارجي ،الاردن ، في تحقيق معدلات نمو عبر عقود تجاوزت ٨٪ .
سادسا: لكن المساعدات، على المدى الطويل ، لم تفلح في بناء اقتصاد ، يعتمد اكثر على ذاته وفق برنامج محدد الافق ، لتُخرِجه تدريجيا من دائرة العجز التمويلي .نعم هي تسد فجوات ، ومتقطعة ، لكنها غير مضمونه التدفق . .
سابعا: لقد أدرك الملك عبد الله الاول وبذكاء قيادي فطري ، ادرك الحال والبيئة السياسية والمعادلة الاقتصادية الاقليمية والدولية .وكذلك ،من بعده جاء الملك الحسين بن طلال، رحمهما الله . كما أدرك المعادلة أكثر وريثهما الملك عبد الله الثاني ، وكلٌّ أدرك ، ويعرف ، عناصر ضعف البلاد من شح المصادر من ماء وطاقة، ويعرف عناصر قوتها من الشباب المتعلم والقيادات الادارية ذوات الكفاية والانفتاح على العالم . ولمسوا بأنفسهم البيئة الاقليمية والدولية والدول العظمى التي لا يمكن للحصيف إغفالها، فهي عنصر قوة من جهة ، وفيها ضغوط وكوابح . .
ثامنا: استوعب الاردن وبكفاءة وذكاء ،الوضع الاقليمي والدولي والاميركي الضاغط ،فتجنب ،لفترة طويلة، الحلول المنفردة مع إسرائيل ، ما أمكن . كما تجنب الدخول في تحالفات ضد الارض العربية .
تاسعا : المساعدات مفيدة لكنها تحتاج الى “بناء مؤسسي كجهة متخصصة لمتابعتها والتفاوض بمهنية عالية مع الممولين” حتى يبقى عبؤها مقاساً بمورد الصادرات والقدرة على التسديد ، ضمن حدود مقبولة .
عاشرا: .لابد ان يدرك الفرد منا ان المساعدات الخارجية هي سلّة متنوعة متاحة من إدخارات دول اخرى ، وتتطلب الحاجة للدولة المستلمة لها، الموازنة بين حاجتها ،وقدرتها على الاختيار والتسديد ، وبين قوة الدولة المانحة . فرغم ان المساعدات ساهمت في تجسير فجوة الادخار في الاقتصاد الوطني ، الا ان لها آثارًا جانبية ، فكلما قلل مستلمها تلك الاثار ، ارتفع مردودها ، ذلك لارتباطها بشروط مشاريع محددة وأفقُ كُلَفِها الحقيقية متغيرٌ(ومنه اسعار صرف عملات الدين) .و من تلك الاثار ايضا ، انها تجذِّر عند بعض الادارات المالية نمطاً ونهجاً مُجانِبٌ لسياسة حُسن التدبير في الادارة المالية ، وباتجاة زيادة الاستهلاك والانفاق .
احد عشر :
لكي نحافظ على انفسنا في دائرة الواقعية ، وفي ظلال الوضع الاقليمي والعربي ، علينا ان نبتعد عن مطالبة الاردن ان يكون في صِدام ٍمع الدول الكبرى ومنها اميركا و إسرائيل. إثنا عشر: وطالما أن النمط والنهج المالي العام يبتعد ولو نسبيا عن سياسة حُسن التدبير في الادارة المالية ، وباتجاة زيادة الاستهلاك والانفاق ؛ وطالما ان نمط السياسة الضريبية تقليدي لسد عجوزات راهنة ، وبعيد عن التصحيح في الازدواجية ،والتفاوت التنموي(Socioeconomic Dualism &Inequalities ) ، وينحو مُجانبٌ زيادة الدخل وتخفيض الاستهلاك العام؛ وطالما لا يعالج بعزمٍ ظاهرة بيروقراطية الادارة المُنَفِّرة والمعيقة للاستثمار ؛ فستبقى المساعدات ملجأً تمويليا ًمريحاً للحكومات ، ومصدر ضعف للمناعة السياسية والاقتصادية .