كتب الدكتور جواد العناني…
بعد قصة التصارع بين الفئتين الرئيسيتين للمكوّن الشيعي في العراق، والتي ما زال صراعها قائماً بشأن أيٍّ من هاتين الفئتين أكثر قوة وتأثيراً، تأكّدت حقيقة أساسية قلّما نسمع من يتحدّث عنها، وهي أن الشيعة ككل باتوا القوة المسيطرة على صنع القرار، وأن المكوّنين الآخرين، السنة والكرد، يبذلان كل ما لديهما من إمكانات من أجل تأكيد وجودهما، والسعي إلى التعايش مع إحدى فئتي الشيعة ( الصدريون والتكتل).
ولقد عقد ملتقى الرافدين للحوار التابع للمرجعية الدينية العليا في النجف (السيستاني) مؤتمره الرابع من الاثنين 26/9 وحتى الخميس 29/9 تحت عنوان “العالم يتغير”.
وحضر اللقاء مندوبون عن 33 دولة، وبلغ عددهم حوالي ألفي مشارك وأكثر. وقد شهد اللقاء حواراتٍ مع شخصيات عراقية بارزة، أمثال رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ومحافظ البنك المركزي مصطفى غالب مخيف، ورئيس تحالف قوى الدولة الوطنية عمار الحكيم، والأمين العام لحركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، والأمين العام لمجلس الوزراء العراقي حميد الغربي، وكل من رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، ورئيس وزراء تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي، ورئيس مكافحة الإرهاب اللواء الركن عبد الوهاب الساعدي، وغيرهم.
وقد وُضِع جميعهم تحت المساءلة القاسية، ما دفع معظمهم إلى موقف الدفاع عن مواقفه وتناقضاتها. وأثار المحاورون مع الشخصيات أسئلة حرجة عن الفساد، وعمقه، وعن علاقته بإيران. ولكن أياً من المسؤولين احتجّ على قسوة الأسئلة، لأن سقف الحوار والنقاش في ملتقى الرافدين عالٍ وبشكل استثنائي ملفت للنظر.
ولعل من أبرز القضايا التي ظهرت على السطح الموقف العام من إيران. وحيث إن هذه هي مشاركتي الثالثة في المؤتمر، لمست تغيراً واضحاً بين الحضور، وبخاصة الشيعة، تجاه إيران. ففي المرّات السابقة كان المحسوبون على إيران، أمثال هادي العامري، وبعض النواب المتحمّسين لها، يهدّدون من يتهجم على سياسات الجمهورية الإسلامية، أو يغمزون بطرفها أو يقللون من دورها في دعم العراق.
وفي المؤتمر الأول الذي عقد عام 2018 دار نقاشٌ حادُّ بين رئيس هيئة الأركان آنذاك وبعض عناصر الحشد الشعبي لمّا قال إن الجيش هو الذي تصدّى لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولولاه لما خرجت عناصره من كل من كركوك ونينوى وبغداد والأنبار. وجوبه باحتجاجات وتنديدات من أنصار إيران، وقدّم الرجل استقالته في ذلك اليوم، ومباشرة بعد الجلسة. أما المزاج هذا العام فقد اختلف جداً.
الملاحظة الثانية أن الشعور السائد بين العراقيين المسؤولين والسابقين في المؤتمر كان يريد أن تكون له علاقات مع إيران، بشرط أن تحترم ايران الخصوصية القُطرية للعراق، وعدم التدخل منها أو من تركيا في شؤونها الداخلية. وقد اضطرّ أحد المتحدّثين الأتراك للدفاع عن تركيا بشراسة عندما اتهمت بالاعتداء على حقوق العراق في مياه نهري دجلة والفرات. ما يعرّض أمن العراق المائي والغذائي لتحدّياتٍ كثيرة.
وفي إحدى الجلسات، دافع الباحث المصري حسن أبو طالب، وهو نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بقوة وعاطفه جياشة، عن موقف مصر حيال الإرهاب في صحراء سيناء، حينما قال متحدّث إيراني إن مصر تساعد إسرائيل بتضييق حركة أهل غزة كما تفعل إسرائيل. فيما قال أبو طالب إن دم المصريين يُراق على أيدي الإرهابيين، مشيراً إلى حوادث سابقة، وأن من واجب مصر الدفاع عن نفسها. وقد جرى هذا كله في وقتٍ كانت فيه الجلسة مخصّصة لبحث أزمات المغرب العربي، خصوصا تونس وليبيا.
وقد شهد المؤتمر انعقاد مجلس النواب العراقي يوم 28/9 للتصويت على قبول استقالة رئيسه محمد الحلبوسي، والتصويت على اختيار نائبه. وقد شهدت شوارع بغداد استعداداتٍ أمنية وعسكرية لحصر المظاهرات في ميدان التحرير ببغداد، وعدم وصولها إلى المنطقة الخضراء.
واعتبرت استقالة الحلبوسي مناورة سياسية أراد منها إعادة تأكيد انتخابه وتعزيز شرعيته رئيسا للبرلمان. ولكنه في مداخلته التي جاءت في اليوم الثاني للمؤتمر (27/9)، أكّد أن استقالته ضرورة لا بد منها لأن تكوين مجلس النواب الذي انتخبه رئيساً قد تغيّر باستقالة نواب الحركة الصدرية، ما دفعه إلى تقديم استقالته لتكون في تصرّف المجلس. وقد رفضت استقالته بأغلبيه ساحقة، ولم يوافق عليها سوى ستة أعضاء.
وهكذا حدّد السنة هوية من يمثلهم في مجلس النواب. والآن يأتي الدور على المكوّن الكردي ليتفق على اختيار رئيس الحمهورية. ومن بعدها تصبح الكرة في الملعب الشيعي، لكي تتفق الأطراف على شخص رئيس الوزراء، ومن ثَمَّ تشكيل مجلس الوزراء.
وفي حديث يوم الأحد الموافق 2/ 10 له إلى شخصيات أردنية في قصر الحسينية في عمان، أكد ملك الأردن عبدالله الثاني أن الموضوع العراقي يشكل أهميه كبرى في التعاون الإقليمي، وفي التأثير على المسار الفلسطيني.
في ضوء الاجتماع الذي جرى ذلك اليوم بين رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية والرئيس الفلسطيني محمود عباس، تأكّد هذا المفهوم وأن التهدئة مطلوبة في المنطقة من أجل الوصول إلى حل الدولتين وفق المبادرة العربية والشرعية الدولية في فلسطين.
ومع إيجابية الأخبار عن قرب اتفاق بين لبنان وإسرائيل على ترسيم الحدود البحرية، صار من الواضح أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية المقبلة سيكون لها أثر كبير على مستقبل التهدئة في المنطقة كلها.
الوضع في العراق وسورية ولبنان وتطور الأوضاع الفلسطينية والانتخابات الإسرائيلية مترابطة في تصوّر الأردن، البلد القابع وسط كل هذه المناطق. ولذلك، يريد الأردن للشيعة أن يتفقوا على رئيس وزراء.
ويبدو أن حظوظ محمد شياع السوداني الذي طُرِح اسمه مبكّراً قد تقلصت كثيراً، وأن حظوظ الآخرين المتطلعين إليها تقصُر عن حظوظ رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي. كان ملتقى الرافدين للحوار الرابع مناسبة تثقيفية عن العراق وأوضاعه، وأنا سعيدٌ أنني كنت أحد المشاركين فيه بنشاط.