كتب سليم النجار
توطئة
ثائر حنيني من مواليد قرية بيت دجن- نابلس، اعتقل في ١/ ٧/ ٢٠٠٤، وحُكِمَ بالسجن لمدِّة عشرين عاماً على خلفية مقاومة الاحتلال. حاصل على بكالوريوس في التاريخ من جامعة الأقصى، وبكالوريوس ثاني في تخصُّص “اجتماعيات” من جامعة القدس المفتوحة، يُعِدُّ لنيل درجة الماجستير في العلوم السياسة. نُشر له العديد من الكتابات؛ إلكترونياً وفي الصحف العربية. يُعَدُّ رُكناً في العمليَّة التعليميَّة الجامعيَّة داخل الأسر.
رواية “تحيا حين تفنى” تأتي كلّها بضمير المتكلِّم، ذلك الذي يمكن أنْ نطلق عليه لقب الراوي المُشارِك، من حيث كون الراوي طرفاً مباشراً في اللعبة وليس منفصلاً عنها. وهو ما يعطي الانطباع بأنَّ ما حدث حقيقةً لا مراء فيها، وبما يُتيح أيضاً إمكانيَّة إدراج الاعتمالات الداخلية من أحلام وتأملات ورؤى وتذكُّر… إلخ، دون ادِّعاء بمعرفة خبايا الأمور.
ولعلَّ رواية “تحيا حين تفنى” لثائر حنيني قد جاءت ذا طابع أكثر تعقيداً وعمقاً في طرحها لمشكلة أبطالها، فهُم أقلُّ رومانسية وأكثرُ إشكاليَّة. ولعلَّ السبب في ذلك يكمن في تطوُّر الوعي للشخصيات الروائية التي رتَّبت أولوياتها: الوطن أولاً ومن ثم الحبيبة. ولعلَّنا نلاحظ أنَّ الرواية قد أخذت من الناحية البنائية منحىً خطيَّاً- يبدأ الحدث فيه من نقطة البداية بمنحنياته وتعرُّجاته المختلفة: “ثمانيةَ عشر عاماً انقضت كأنَّها دقائق معدودات على ذلك اللقاء الذي سبق الرحيل الأخير بأيام، ولاتعرف سلوى كيف وجدت نفسها هنا وما الذي قاد قدميها إلى هذا المكان النائي والمُقفِر إلَّا من شجرة كينا وحيدة، تُظلِّل أطلال عزلة حظيت ذات يومٍ باستضافة عاشقين بحفاوة إلهة أم” (ص١١).
كما وظَّف الكاتب الزمن على شكلِ زمنٍ مضى وزمنٍ آخرٍ لا يأتي، وبين الزمن الهارب والزمن الذي يرفض المجيء ثالثٌ متشكَّلٌ من السجن الإسرائيلي: “وكأنَّ عقدين من الزمن لم ينقضيا، كل شيءٍ على حاله كما كان عليه آخر مرة” (ص١١).
لقد تعلمت، من خلال قراءتي السابقة، بأنَّ الانتقال من مستوى التحليل إلى التعليل والتأويل تقتضي القدرة على نوع من قراءة النص الروائي (العربي الفلسطيني) من اليسار إلى اليمين، وكذلك من الأسفل إلى الأعلى، كما القدرة على نوع من القراءة المعكوسة، وليس القراءة التقليديَّة الإطراديَّة، التي تبدأ من اليمين (في حالة النص العربي الفلسطيني) إلى اليسار، وكذلك من الأعلى إلى الأسفل. هذا لأنَّ القراءة الأولى (السطحية) البنائيَّة، ما هي إلَّا محطة ننطلق منها نحو قراءة ثانية (عميقة) دلاليَّة، ومنها نتتبع مسارات العناصر الرمزية داخل النص، والتي هي مسارات تقوم على تجاوز البُنية القرائيَّة والانطلاق من اليمين إلى اليسار، من حيث تتبع خط إنتاج الدلالة: “هو يوم للذاكرة إذن، للدمع الذي يُخلِّف مزيداً من البرد والقشعريرة على الجسد، ومزيداً من الحزن في روح واظبت على مدارِ عمرٍ عشقَ هذا الكائن الخرافي، الذي تسلَّل إلى عالم امرأةٍ عشقته وهي على علمٍ تامٍ بأنَّه مريضٌ بالوطن” (ص٢٦).
إنَّ مبدأ الوعاء والمحتوى، في علم النفس، يُعلِّمُنا بأنَّ القطار يمكن أن يأتي- في بعض الحالات النفسية وعلى رأسها الأحلام- رمزاً للعضو الذكري. هذا في علم النفس، لكن في علم النفس الفلسطيني، إذا جاز لنا التعبير، تأتي الأحلام كسفينة رمزاً للتواصل الإنساني، بعيداً عن الشهوات الذكريَّة، وهذا الحضور الإنساني يأتي كأولويَّة جماليَّ: “أراحه موافقتها الضمنيَّة، وعذَّبه افتراض ما سيأتي على هذه المرأة، التي رفضت أن تكون ضرَّتها وطن يتقاسم عشقَ هذا الرجل” (ص٣١).
السؤال: كيف يتم تصوير السفينة على شاكلة الحلم؟ لنتابع:
“السفينة تزحف على البحار/ تتطلاطم مع الأمواج… (إن جاز أن نتعمق أكثر من ذلك) يُنقل المسافرين من ميناءٍ إلى ميناءٍ آخر، دون أن نغفل علاقة ذلك المكان اللاشعوري بنقل الحلم من صلب العشق إلى رحم الوطن. تَذكُر أنَّه حدَّثها عن نجاته من موتٍ محتَّم، وقال لها مداعباً: نجوت هذه المرة لأجلك… كي أراك هنا، حيث لا أحد سوانا يطأ هذا المكان” (ص٤٨).
ودون أن ننسى كذلك بأن شكل الحلم- من الناحية البصرية العاملة في تشكليه- هي رؤية الكاتب، الذي يصيغُ من جمله الروائيَّة كمخاضٍ لفترة اعتقاله، ليرسو على شاطئ الشهادة بعد أن ينزل من بطن الوطن، ليعود مرةً أخرى لبطن الأرض شهيداً: “وقتها شعرت لأول مرة أنَّ فادي استشهد. عدتُ إلى الوراء حين كنتُ أدرِّبُ لساني على نطقها أيام الطفولة، أمام مشاهدتي له يعدّ عدته للقاء أرتال الجنود المشاة في شوارع بيت دجن…” (ص٦٢).
تخيَّل كما لو كان النص الروائي شجرة، تظهر لك أغصانها وثمارها بشكل واضح، لأنَّها تقع فوق سطح الأرض، إلا أنَّ هذه الأغصان وتلك الثمار لا تعني بأنَّ ما تراه بعينيك يعبِّر عن الحقيقة الكاملة للشجرة، بل إنَّ هناك جذوراً لا تظهر لك، لأنَّها تقع تحت سطح الأرض، لكنَّها كما أسلفنا من قبل ترى الثمار فوق الأرض، أي الأساس هو الجذر الذي تحت الارض، هذه الصورة التي قدمها الكاتب ثائر وسعى لتكريسها في النص، لكن مقطع الشهادة هو الأكثر تعبيراً، إنَّ جثمان الشهيد هو الرحم للجذر الذي ينتج الثمر: “لم تكن تدرك سلوى أنَّ وعودَ العشَّاق في فلسطين كورودهم تماماً. فمع جمالها ورقَّتها هي سريعة الذبول والتفتُّت. فقط هي الرائحة أو مجازها ما يتبقى، لقد أخبرها فادي في آخر لقاء لهما تحت شجرة الكينا، في عزلة العشق تلك، بأنَّه لا يملك نفسه، لذا لن يقطع لها ذلك العهد بأن يعودا معاً لتستعيد حقيبتها”(ص٦٤).
تظلُّ روح كل فنانٍ أسيرٍ في المعتقلات الإسرائيلية- روائياً كان أو شاعراً أو تشكيليَّاً- تهفو لزمن تكون فيه الهويَّات المتنوعة- قوميَّة أو ما تحت قوميَّة- عناصرَ ثراءٍ للهويَّة الإنسانيَّة النضاليَّة ضد المحتل الإسرائيلي، الذي استطاع الكاتب “ثائر” تصوير هذه الصورة الإنسانيَّة من خلال الصفحة الأخيرة (التالفة) الذي قال فيها: “لم أعد أذكر ماذا احتوت الصفحة التي مرَّ على تدوينها قرابة العقدين… غير أنَّ فحوى بعض ما جاء فيها: بعد أن استشهد فادي حنيني ورفيقه جبريل عواد في تلك المعركة، التي غدت حديث الناس لزمنٍ طويل، وغدت قوَّة مثال عمَّن يواجهون مصيرهم بشجاعة. وقد وقعت في إحدى حارات البلدة القديمة لنابلس في الثامن عشر من كانون الأول للعام ألفين وثلاثة” (ص٧١).
أخيراً وليس آخراً أعادتني رواية “تحيا حين تفنى” لثائر حنيني لما قاله غاندي “فلسطين عربية.. وثيقة للمهاتما غاندي”:
وإذا لم يكن لليهود أي وطن إلَّا فلسطين، فهل يستسيغون فكرة إجبارهم على ترك الأجزاء الأخرى التي يعيشون فيها من العالم؟ أم تراهم يريدون وطنين يحملون الولاء على هواهم؟.