مصطفى أبو لبدة يكتب: مُسيّرات في الضفة؟

كتب مصطفى أبو لبدة

يزهو بنيامين نتنياهو في مذكراته، التي نشرها بعنوان “قصتي” قبل أسبوعين من فوزه بالانتخابات الإسرائيلية، بأنه السياسي الذي استطاع إبعاد الشأن الفلسطيني عن المسرح الدولي والساحة الداخلية.

هو فعلًا أبعد القضية الفلسطينية عن المسرح الدولي، بدليل أن الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما كان في إسرائيل، الصيف الماضي، وعقب توقيع “بيان القدس” الذي يضاعف حجم رعاية واشنطن لتل أبيب، سُئل عن موضوع استئناف المحادثات الفلسطينية-الإسرائيلية فكان جوابه :”ليس الآن”..

كرروا عليه السؤال بشأن بعض القضايا النهائية العالقة في هذا الملف، فكان جوابه: “إنها تنتظر عودة المسيح”.

نجح نتنياهو خلال أطول عهد لرئيس حكومة إسرائيلية، في إبعاد الشأن الفلسطيني عن الساحة الدولية، لكنه قطعًا لم ينجح في إبعاد هذه القضية من الساحة الداخلية.

وعندما يعود لمكتبه في رئاسة الحكومة، بعد أيام، وقد صار تشكيل الحكومة أسهل عليه بموجب ما حصّله من فوز فاق التوقعات، فإنه سيجد أمامه على باب المكتب “الشأن الفلسطيني” ينتظره بملف أمني مثقل بالاستحقاقات والاعتبارات المستجدة التي لم يواجهها من قبل ولم تكن ضمن مذكراته.

هي مستجدات من بعض ما يسميه في كتابه بـ”الجيوسياسية المشحونة للشرق الأوسط”، والتي تحتاج بالضرورة الى مخيلة استباقية سيجري امتحانه فيها ربما بأقرب مما هو متصور.

للمسرحي الإيرلندي الأشهر أوسكار وايلد جملة شهيرة تقول: “أنْ تتوقع ما هو غير متوقع، هو الإثبات أن عقلك حديث فعلًا”، وهذا ما سيُمتَحنُ به نتنياهو وهو يشكل حكومة محكومة للفاشية.

فإذا كانت قضايا القدس، وحق العودة، والدولة الفلسطينية، تنتظر عودة المسيح، كما اختصرها بايدن، فإن موضوع الأمن في الضفة الغربية يشي بأنه يوشك أن يخرج من اليد، ليس فقط بقوة دفق الدم الذي تواصل خلال العام الحالي، وإنما أيضًا بنوعية السيناريوهات المجهزة أو المتخيلة لمرحلة ما بعد الرئيس الفلسطيني محمود عباس.

هذا هو الملف الذي سيكون بانتظار نتنياهو على باب مكتبه الرئاسي عندما يدخله.. إلحاح الأولوية في هذا الملف، مردّه إلى أن الحرب في أوكرانيا صنعت جيوسياسة مشحونة (بحسب تعبير نتنياهو)، أضحت فيها إسرائيل مثل تايوان، مختبرات جاهزة لقياس درجة الاستعداد الدولي لفتح جبهات جديدة من الحرب الباردة أو الفاترة، مفاتيحها أسئلة مبرّرة، من نوع: هل أصبح الوضع في الضفة وإسرائيل جاهزًا لتغيير قواعد اللعبة التي كرستها اتفاقيات أوسلو بالانتقال لمرحلة المواجهة بأسلحة الطائرات دون طيار (المسيّرة)؟

هذا السؤال الذي يختبر مقولة “توقع ما هو غير متوقع”، أجابت عنه إسرائيل بـ”نعم”، بعد أن أصبحت الحرب في أوكرانيا حرب طائرات مسيّرة ونموذجًا تستلهمه في العالم كل مناطق الاشتباك المسلح بين قوى غير متكافئة في السلاح التقليدي.

ومع حرب المسيّرات، أدخل النموذج الأوكراني إلى اللغة اليومية تعبير “القنبلة القذرة” التي تحوي مكونات متاحة غير مكلفة يُصنع منها سلاح إبادة جماعية، ترفعه الأطراف المستضعفة التي تعاني من قهر وخيبات أمل، بعضها من الاحتلال والبعض الآخر من عجز قياداتها.

المسيّرة و القنبلة القذرة أسلحة لا تغير من سياقات المعركة لكنها تغير مفهومها، كونها شعبوية نفسية، وتحدث ضغطًا سياسيًا يعيد الكاميرات لمناطق المواجهة في القضايا المنسية أو المسحوبة من الأجندات السياسية الدولية.

كان أمرًا لافتًا أن إسرائيل أعلنت مؤخرًا أنها أجازت الإعلان العسكري عن استخدام المسيّرات في استهداف خلايا المقاومة في الضفة الغربية؛ جاء ذلك بعد أن وصل عدد حالات إطلاق النار ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين 180 حادثة منذ بداية السنة، وهو رقم مضاعف 3 مرات عن العام الماضي، يرافقه ارتفاع في عدد القتلى إلى 149 بينهم 19 إسرائيليًا، بعضهم في هجمات داخل العاصمة تل أبيب.

وعليه، سيكون نوعًا من قصور المخيّلة السياسية إن لم يتوقع نتنياهو أن لجوء المقاومة الفلسطينية إلى خيار المسيّرات مسألة واردة، وبالذات مع الفصائل التي لإيران عليها ميانة القرار.

حظيت إيران، في الأسابيع القليلة الماضية، بتغطيات صحفية دولية ترى فيها الندّية وهي ترفد روسيا بالطائرات المسيّرة التي أضحت عنوان الحرب في أوكرانيا.

وإذا كانت أمريكا في طريقها لنسيان الملف النووي الإيراني بعد طول المماطلة فيه، فليس أقرب للتصور من أن تكون طهران تفكر بفتح جبهة عسكرية جديدة في الشرق الأوسط للضغط من أجل استئناف محادثات فيينا الخاصة بموضوع النووي؛ الجبهة المحتملة مكانها النموذجي في الضفة.

في لبنان، لا يستطيع “حزب الله” أن يفتح هذه الجبهة مع إسرائيل بعد اتفاق ترسيم الحدود البحرية والتفاهم على موضوع آبار وحقول الغاز في المياه الإقليمية، فلماذا لا يكون التحرش الإيراني بنتنياهو- الذي يفخر أنه هو الذي أقنع دونالد ترامب بأن تنسحب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني 2015- بطريقة إدخال المسيرات للضفة الغربية؟

هذا النوع من التحرش فيه تغيير لقواعد اللعبة باعتبار أن شريط أراضي 1948 يمكن اختراقه من الضفة الغربية حتى بمسيّرات الهواة التي لا تكلف الواحدة أكثر من 250 دولارًا بحسب تسعيرة شركة التسويق والشحن الأمريكية أمازون.

حروب المسيّرات ليست جديدة على الشرق الأوسط، حيث فتحتها إيران مبكرًا وزودّت بها وكلاءها في لبنان، والعراق، وسوريا، وغزة، وغيّرت بها طبائع المواجهة بتخفيض التكاليف المادية والبشرية ومفاهيم المعركة في مكانها وزمانها.

وفي هذا السياق، يضحي إدخال المسيّرات إلى الضفة الغربية، سواء عن طريق إيران أو بدوافع اليأس الأهلي الفلسطيني، وابتكار بدائل للانتفاضة الشعبية الثالثة، تغييرًا لقواعد اللعب، عممته الحرب في أوكرانيا، وعانت منه دول المنطقة، ولم يعد بالإمكان تجاهل احتمالاته مع إسرائيل وهي في عهدة نتنياهو المتجدد بسبع أرواح.

الأسبوع الماضي، وخلال احتفال لمؤسسة “هيلموت كول” الألمانية، لم تجد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل وسيلة لتحذير العالم من متواليات وارتدادات الحرب في أوكرانيا أفضل من أن تكرر مقولة “أوسكار وايلد” لكن بنسخة ألمانية، قالت فيها إن “منتهى الحذق السياسي هو أن تفكر أيضًا بما لا يمكن تصوره حاليًا، ولا يمكن تخيلّه تقريبًا”.

ربما لم يكن أحد يتصور أن يرى المسيّرات الانتحارية في الضفة وداخل إسرائيل، لكن الحرب في أوكرانيا، وارتداداتها المنظورة على الشرق الأوسط، تفرض طرح هذا الاحتمال، وتستدعي تخيّل ما سيحصل.