كتب المهندس سليم البطاينة…
يتعرض العالم العربي لأعنف موجة من التدمير الذاتي والانقلاب على الثوابت، وكأن ناراً اشتعلت تأكل في طريقها كل شيء لا تُبقي ولا تذُر … فما شهدته المجتمعات العربية خلال ثلاثون عاماً من تحولات قلبت البنية العميقة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمعات العربية، فقد شهدت الاقتصادات انقلاباً عميقاً جراء الانتقال من سياسات تسيطر عليها الدولة إلى اقتصادات خاصة وعائلية.
ولا حاجة هنا لتقديم الدليل على التفكك والتحلل الذي لحق بالمجتمعات العربية، فحالة البؤس والكآبة التي تنتاب الجميع عند النظر والتفكير في واقع الحال اليوم وما تعانيه من تقهقر وتفكك ومصاعب متعددة تتأزم يوماً بعد يوم … فلو نظرنا إلى واقع الانسان العربي وسلوكه إزاء ما يعاني من تخلف وتفكك اجتماعي يتفاقم بإطراد من تفريغ الشعب العربي من أي قيمة نوعية أو كيفية ، ومصادرة المستقبل وتشويه الاجيال والبنية الديموغرافية بتحويل المواطنين إلى ركام رقمي لا قيمة له لأنه غارق في الجهل والفقر والمرض والتخلف الفكري.
ولعل من أكثر الأدلة على غيبوبة المواطن العربي هو موت حسه على ذاته التاريخية ، فأصبح يراقب ببلاده ويغمض عينيه عن أدوات الهدم التي تدمر مجتمعه وتفتك بقيمته وحريته ، وكل ما يضمن استقراره.
فتفكيك المجتمعات يمكن رصده مع مرور الزمن وتراكم عوامل عديدة، وقد تحصل تغيرات لا تُدرك إلا بعد فترة لأنها تمشي بشكل بطيء وتدريجي، وقد يحصل تغير ضخم يصح القول أنه يفصل بين زمنين وفي إطار زماني ومكاني ، وقد تلعب أيضًا عوامل مختلفة داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية دور التحفيز لهذا التفكك والتغير الذي قد يكون سريعاً ومخططاً له كما أشار إليه عالم الاجتماع الكندي Guy Rocher.
فعلى مستوى الدولة في الوطن العربي كانت البداية بإفراغ الدساتير من مضامينها حيث لم يعد الدستور مُهيمناً ولا راسماً للسياسات ! ثم توالت عملية العبث بالأنظمة والقوانين وتزوير الانتخابات وتفصيل قوانين انتخاب على المقاس، وتم إجهاض الدور المحوري للحكومات وإضعافها بحيث صار غالبيتهم من الموظفين الذين ينتظرون التوجيهات ولا يتخذون القرارات، وبعد ذلك تعاقبت متواليات تفكيك مؤسسات الدولة واحدة تلو الاخرى.
وعلى مستوى المجتمع طفت على سطحه استقطابات أضعفت نسيجه الاجتماعي وأدت إلى شرذمته، وصارت الوجاهة والحصول على المناصب … واختزل التعليم بالشهادة وعَجِزَ التعليم عن بناء مجتمع المعرفة فصار لدينا حملة شهادات بلا علم ولا مؤهلات أدت إلى جعل البناء الاجتماعي هشاً.
أما على المستوى الاجتماعي فقد حصل تحول عميق في صعود طبقة من رجال المال والأعمال الذين كان لهم لاحقًا اليد الطولى في اختيار الحكومات واسقاطها واحتلت تلك الطبقة موقعاً مميزاً في الهرم الاجتماعي كان من نتائجه تدمير الطبقة الوسطى.
وعلى صعيد السياسة تحولت وراثة المناصب ولعبة تدوير الكراسي الموسيقية إلى محور أساسي ورئيسي قاد إلى تحول عميق لطبيعة الطبقة السياسية وتوجهاتها واهدافها أدى الى الزواج بين السلطة والمال، وما نشأ عنها لاحقاً من إرادة سياسية تنزع إلى تكريس السلطة الشاملة والدائمة على المجتمعات !
اما على الصعيد ( الجيو استراتيجي ) فقد العالم العربي سيطرته على مصيره الجمعي ، وأصبحت ساحاته منطقة فارغة من القوة ، ولم يعد له أي رصيد في حسابات القوى الدولية والإقليمية … وأُضعِفت الدول العربية بتجسيداتها الجغرافية، سواء كانت دول الطوق العربية أم دول العمق العربي، إذ أنجزت حالة التفتيت على صعيد الدولة الوطنية … كما تم تفكيك مفاصل النظام الاقليمي العربي الذي كان يُمثل هاجساً أمنياً مقلقاً في حال توحد عناصره.
وللأسف فما زال الكثير من الأنظمة العربية لا تدرك أن أهم كيانين لأي شعب هما الدولة والمجتمع فعندما تنهار القيم تنهار الثوابت، ولتفكيك المجتمع وإضعاف الدولة هناك أساليب وآليات كثيرة ، منها تكثيف العمالة الوافدة ، والعمل على تدمير الطبقة الوسطى وانتشار المخدرات، وتشرذُم النُخب وانصرافها عن التزامها الاجتماعي وتقويض بنية الأسرة في المجتمع وتدمير التعليم والخدمات، مما يؤدي في النهاية إلى عجز المجتمع عن بناء مجتمع المعرفة وإلى تغيير العقل وإعادة صياغة الهوية.
والتاريخ يشهد أن دولاً عديدة دخلت هذه الدوامة ولم تخرج منها إلى يومنا هذا بدءاً من أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا والجزائر والسودان واليمن وليبيا والصومال ومالي وتشاد … الخ.
خلاصة القول لم يعد لدى الشعوب العربية طاقة لتتحمل كم الفساد والاستبداد الذي يُمارس عليها ! فقد عم الفساد وأُهدرت المقدرات وضاعت الثروات التي انحصرت في أيدي فئة قليلة صاحبة النفوذ والسلطة ، والتي قضت على أي حالة من حالات النهضة نحو مستقبل أفضل.