كتب د. حفظي اشتية
فوق هام السّحب، وعلى سنام شواهق الجبال، تجثم قرية (الكفير/جرش)، مهد الشهيد، ومسقط رأسه، ومأوى جثمانه، ومحلّق روحه الطاهرة الصاعدة إلى بارئها الذي انتدبها، وكرّمها، واصطفاها للشهادة.
دَرَجَ على دروبها، وفي بيوتها المتواضعة في بنيانها، الشامخة في أنَفتها وعزّها وعنفوانها. على بيادر قمحها تربّى، تحنو عليه يدا والده المعطرتان بالعرق، العَبقتان بطُهر التراب، وتلقمه أمّه خبزة الشراك، المضمخة بالمعاناة، المغمسة بالحنان والآمال العِذاب والأشواق.
تتسلّل إليه أشعة الشمس صباحاً من الفدين ورحاب والمدوّر والكرم والقنيّة، ويودعها مساءً على ساكب ودبين وأعالي سوف وعنجرة وجبال عجلون ونابلس، وتتهاوى إليه من الشمال أنسام المجرّ وقفقفا وثغرة عصفور لينفتح المدى نحو بصرى الشام وجبل الشيخ، وتحتضنه من الجنوب مرابع ذويه في مرصع والعالوك والكمشة وصرّوت، ليمدّ ناظريه نحو عمان مهبط الفؤاد، وجبال البلقاء الشمّاء، ويداعبه الكرى مع شمس الأصيل على تراتيل نهر الزرقاء، حزام البلاد، ينساب من رأس العين وديرة طلائع المهاجرين الفارّين بدينهم، القابضين على جمر الشرف، وتلاحق عيناه بلهفة مياه النهر معبر إبراهيم الخليل نحو جلعاد، ويتتبّع أثره مندفعاً بعشقه نحو نهر الأردن ليرافقه إلى مغطس الأنبياء، فينزرع الوطن في حنايا ضلوعه طاقة من المجد والودّ والورد.
دَرَجَ الفتى في مضارب قوم تسربلوا بالرجولة والمروءة والحلم والحكمة ونصرة الجار وإغاثة الملهوف وفكّ النشب بين الخصوم، وتحزّموا بحبّ الوطن فطاروا إلى التضحية من أجله زُرافات ووحدانا، ومَهروا بدمائهم الزكية قدسيته غربيّ النهر وشرقيّه، فما من بقعة إلّا وتجد لهم فيها ذكرا طيباً، وأثراً حميداً، وشواهد قبورهم شاخصة في صفحة الزمان، عصيّة على النسيان، تقول: من هنا مرّوا.
ومَن شابَهَ أهله فما ظلم، فعلى نهجهم مضى البطل يطوي العمر طياً سريعاً نحو الرفعة: خُلفاً وعلماً والتزاماً. اعتلى الدرجات قفزاً بجهده الجهيد، فترفّع إلى قممها وتسنّمها، وارتقى مصاعد العلم وارتاد دوحاته فنال أعلى شهاداته، وتبسمت له الدنيا بعد طول صبر وشقاء، وكان بإمكانه أن ينعم بالراحة، ويقطف ثمار الانتظار والعناء، لكنه نذر نفسه لوطنه، فسهر حين نام الناس، وغامر بروحه حيث ادلهمّ الخطر، فنهض لحماية المواطنين وممتلكات الوطن، مؤمناً بقدسية مهمته، بارّاً بيمينه، مؤثراً زملاءه على نفسه، جاعلاً جسمه سياجاً لهم، ودرءاً يحميهم، فانفتحت له أبواب السموات، وسيعيش ذِكره في القلوب حيث مات.
والأبطال حين يستشهدون يتركون لنا أصدق الوصايا، وأعمق الرؤى، ويخطّون بدمائهم الطاهرة مناهج النور، وسبل النجاة.
النجاة في أنْ نؤمن يقيناً بحرمة الدم بيننا أبد الدهر، شرعاً وخُلقاً وإنسانيةً:
فالمواطنون أمانة غالية بأيدي رجال الأمن، مهمتهم حمايتهم، والحفاظ على حقوقهم، وفتح طرقاتهم، وتأمين روعاتهم، وصون حرياتهم…..
ورجال الأمن فلذات أكباد المواطنين، وعيون الوطن، وسياج حدوده، وصمّام أمنه وأمانه.
للمظلوم الحقّ، كلّ الحقّ في أنْ يطالب بحقّه، ويجأر بالشكوى بكلّ وسيلة سلمية حضارية، وبوعي تام وإدراك كامل، وبصيرة نافذة، ليعرف الممكن من المستحيل، ويطلب المستطاع ليطاع.
وعلى كلّ مسؤول شريف أنْ يسعى بكلّ جهده ليبدأ الحلّ، ويزرع الأمل، والبداية يجب أنْ تكون بالاعتراف بجوانب القصور وملامح الفشل، والتوجه فوراً نحو إصلاح كلّ خلل، فقد استبانت الأمور، وتجلّت حقائقها لذوي النظر، ولم يعد هناك مجال للتردّد ونثر الوعود، فالأمر جَلَل، والمطلوب هو صدق النية وحسن العمل.
ولعلّ أولى الخطوات هي المبادرة الفورية إلى ضبط النفقات في كلّ شيء، وسبل ذلك لا تخفى على العامة، فما بالك بالخاصة وذوي الاختصاص؟!
والمبادرة إلى ردم كلّ مزالق الفساد، ومعظمها ظاهر للعيان، يمحق البركة، ويسحق الموارد.
والمبادرة إلى إصلاح إداريّ رقابيّ حقيقيّ، يعيد للوظيفة العامة أهميتها وسويتها وحزمها وهيبتها وسلامة قراراتها.
وقبل كلّ ذلك إصلاح النفوس بحكم الشرع، وبالاستقامة والتحصّن بحسن الأخلاق:
” صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوّم النفس بالأخلاق تستقمِ”.
وفي حضرة الشهادة المهيبة، نطوي جراح القلب على منظر والد الشهيد وابنه يذرفان الدموع السخينة عند الوداع، وتطوف أرواحنا حول آلام الوالدة الثكلى، والزوجة المفجوعة، والأبناء الملتاعين، وذوي القربى المجروحين، ورفاق السلاح يصرعهم الألم والحنين، ونهمس في آذانهم أجمعين:
لستم وحدكم، فقد دخل الحزن إلى كلّ بيت في الوطن، وسكنَ قلب كلّ مواطن.
وعزاؤنا أنّ دماء الشهداء دوماً هي منائر الهدى والرشاد، ومعالم الألم المشترك والاتحاد. وستبقى قوافل الشهداء تعبر قلوبنا تترى:
“إذا سيّدٌ منّا خلا قام سيّدُ قَؤولٌ لما قال الكرامُ فَعولُ”.