كتبت د. حنين عبيدات..
الأردن أرض الحضارات والأمم المتعاقبة ويقطنها المسلمون والمسيحيون الذين ينحدرون من قبائل عربية قديمة ، فالمسيحيون منهم من ينحدر من قبيلة الغساسنة و منهم من ينحدر من قبائل أخرى ، و المسلمين أيضا ينحدرون من قبائل عربية متعددة .
وقد ذكرت الأردن بمصادر عديدة في التاريخ، ومثال على ذلك كما جاء في قصيدة المتنبي التي كتبها عن رحلته في الأردن و قد ذكر فيها مناطق عدة كان قد زارها ، و قد كتب الكاتب السعودي عبدالعزيز المانع كتابا عن رحلة المتنبي في الأردن ، وقد استمرت كتابته للكتاب ثلاث سنوات ، فقد كان الكاتب يذهب للأماكن التي مكث فيها المتنبي و زارها في الأردن و قام بتصويرها و ٱرفق الصور في كتابه .
الأردنيون المسلمون والمسيحيون يشكلون الجسد الواحد بأصالة متجذرة في حب الأردن و المحافظة عليه و يجمعهم العادات و التقاليد العربية و الشرقية، فهم أصل هذه الأرض منذ التاريخ و اللبنة التي بنتها، فلا يوجد ما يسمى عيش مشترك و لا تعايش وهذه المصطلحات لا تطلق إلا على الغرباء ، فكيف لأهل الأرض أن يكونوا غرباء وهم من أصول الشرق و تاريخه .
وحسب ما ذكر التاريخ فقد صاغ الشاعر رشيد سليم الخوري ( الشاعر القروي ):قصيدة بعنوان (عيد البرية) يستحث فيها المسلمين لاستعادة مجدهم القديم منها، داعيًا إلى التحاب والتآخي بين المسلمين والمسيحيين، خدمة لأوطانهم والشرق كله، فيقول:
يا فاتح الأرض ميداناً لدولته
صارت بلادُك ميداناً لكل قوي
يا قومُ هذا مسيحي يذكّركم
لا يُنهِض الشرقَ إلا حبُّنا الأخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة
فبلّغوه سلام الشاعر القروي.
تشكل الوحدة الأردنية بين المسيحيين والمسلمين حالة من الوئام و التكافل الإجتماعي والوطني ، فالتاريخ الأردني مليء بالروايات و السرديات الواقعية التي تدل على المحبة و الألفة و الوصال و الإنسجام الدائم اجتماعيا و وطنيا .
إليكم واقعة تاريخية تمثل حالة من الاحترام و التكافل الإجتماعي و الوطني بين المسيحيين و الأردنيين و قد كتبها الدكتور هاني عبيدات:
(من يدق جرس كنيسة العبيدات)
في حادثة غريبة وطريفة , تستحق أن تُدوّن في تاريخ عشيرة العبيدات لتضاف الى سجل مكارمهم و مواقفهم المشرفة التي تدل على أصالة أهلنا و سماحتهم و طيبتهم و قبولهم للآخرين و وسطيتهم و حرصهم على أماكن العبادة للمؤمنين من أتباع الديانات كلها , في مطلع القرن الحادي و العشرين حضر المطران جورج المرّ – ممثل بابا الفاتيكان – من مادبا بسيارة دفع رباعي و بصحبته ونش وبكب ديانا الى بلدة الرفيد حيث الكنيسة المهجورة بسبب هجرة إخواننا المسيحيين الطوعية الى مشارق الأرض و مغاربها , ثم قام بفك جرس الكنيسة الضخم , و بعدها وضعه في سيارة الشحن مع بعض موجودات الكنيسة … حدث ذلك أمام بعض رجال البلدة دون أن يتدخل أحد بالأمر احتراما و تقديرا للمطران و صحبه , فهو صاحب الأمر و النهي , و هو صاحب الولاية الدينية على تلك الكنيسة , وصل الخبر الى مسامع السيد يوسف القفطان العبيدات أبو معن المعروف بنباهته و فطنته وحبه لأهله و جيرانه و كرهه الشديد للغُبن و الظلم , فاعترض طريق المطران على مخرج الرفيد بجانب بيت المرحوم العم سليمان الكايد العبيدات و طلب منه إعادة الجرس الى مكانه , لكن المطران رفض ذلك و قال لأبي معن : أنا المطران جورج المر ممثل بابا الفاتيكان و صاحب القرار في نقل جرس الكنيسة . فأجابه أبو معن : و أنا يوسف المر ممثل عشيرة العبيدات و صاحب القرار بإعادة الجرس الى مكانه في كنيستنا , فقد كنت أدقه وأنا طفل صغير و كنت أخشع على صوت رناته و هو إرث وطني و جزء منّا و من كنيستنا .
رفض المطران ذلك, فهدّده يوسف القفطان بالشكوى لدى المحكمة , إلا أن المطران لم يكترث وتابع مسيره نحو مدينة مادبا , تقدم أبو معن لدى القاضي أبو عيد قاضي محكمة صلح بني كنانة بشكوى موضوعها السرقة وأودع الشكوى لدى رئيس الكتاب يومها السيد محي الدين الدقامسه, فتم التعميم على المطران وصدرت بحقه مذكرة جلب, حاول الكثير من الأصدقاء والأقارب التوسط لإسقاط الدعوى على أن يعود الجرس الى مكانه , لكن المشتكي رفض ذلك , عندها لم يجد المطران حورج المر بدا من المثول أمام هيئة المحكمة أمام القاضي أبو عيد و معه الجرس, عندها طلب القاضي من أبي معن أن يوقع على استلام الجرس , رفض أبو معن أن يوقع قائلا للقاضي : هناك شيء آخر , سأله القاضي : و ماذا بعد؟ فقال : هناك الصليب ياسيدي القاضي, فاستشاط المطران غضبا وقال : يا أخي انت بدك تصلي بالكنيسة ؟! ثم تعهد المطران بإعادة الصليب في اليوم التالي لأنه بقي في السيارة التي نقلت الجرس الى مادبا , وبعد أن وقّع المطران على التعهد بإعادة الصليب قال القاضي لأبي معن : و الآن يا سيد يوسف هل بقي شيء آخر لكنيستك؟ فقال يوسف : نعم .. بقي الحبل يا سيدي القاضي، عندها أخرج القاضي من جيبه عشرة دنانير وقال : خذ هذه العشرة دنانير ثمنا للحبل ..اذهب و اشتريه من السوق .
خرج الجميع من قاعة المحكمة, فقابلهم على بابها أحد الخوارنة ومعه عدد من رجال الدين المسيحي الذين سمعوا بالخبر , عانقوا أبا معن مشيدين بموقفه شاكرين له ولعشيرته حرصه وحبه وغيرته على كنيسة الرفيد التي حظيت بعدها باهتمام بالغ وصيانة وحراسة بأمر من بابا الفاتيكان الذي خصص لها مبالغ وفيرة ليعيد لها الحياة والنبض من جديد وليبقى اسم الرب مباركا واسم الاردن خالدا .
كل عام واخوتنا المسيحيين بألف خير.