الأردن اليوم – المهندس سليم البطاينه- أن أشدَ أخطاء الفكر البراغماتي وطأة هو ذلك الذي يتمشهد في غياب العقلانية والرُشد السياسي.
في الوقت الذي تُعرّف فيه العلاقة بين البعض من الأحزاب السياسية والدولة بأنها في حالة تشنج قصوى ،،، ما زال قاموس الفكر السياسي الأردني عاجزاً عن تعريف معنى المعارضة السياسية ضمن النسق السياسي الأردني ،،، وما زال التصور الكلي بين الدولة ومن يعارضها وينتقدها هو التقاطع في كافة المسارات ! وهذا برأيي يحتاج إلى تفهم وإدراك عالي المستوى لخَلق توازُنات سياسية ، واستخراج نُخب جديدة لعلها تُضيف شيئاً ، أو يَنتج عنها خطابٌ سياسيٌ جديد.
فتعامل الدولة مع معارضة واضحة بالأطر والأساليب المعروفة هي بالتأكيد أكثر ضمانة رئيسية لاستقرار النظام وتحجيم مخاطر الفوضى والاجندات المفاجئة ،،،،، فمن راجع التاريخ جيداً سيتأكد أن أهم أسرار نجاح أي مشروع سياسي هو إتقان متى يمكن القيام أو عدم القيام به ! فأية قرارات غير مدروسة ستتحول الى مشكلة كبرى تعصف بنا في لحظة عِند ،،، مع العلم أن جميع التجارب الديمقراطية في العالم تقول أن معارضة برلمانية ضعيفة وحكومة قوية موالية بالمطلق للدولة ستُفقد المشهد السياسي درجة من التوازن المطلوب.
لكن ،هنالك أسئلة تدور في عقول الكثير من الأردنيين بَعد البراغماتية وازدواجية المعايير في تعامل الدولة مع أحزاب معينة واجهت خلال الفترة الماضية موجة من العداء وصل حد شيطنتها وإخراجها من المعادلة السياسية ، والتي لم يتوقعها أحد ، ولا حتى أكثر المتشائمين ؟!
ولعل تغيير زاوية النظر سيُساعدُنا على طرح أسئلة أكثر لفهم تلك الازدواجية في المعايير والناتجة عن ضعف رؤية وأدبيات بعضٍ من المسؤولين، والتي باتت سمة بارزة وسياسة أصيلة ممنهجة ،،،، فكثيرٌ من حكومات العالم استخدمت ازدواجية المعايير في تحجيم خصومها السياسيين ، لكن غالباً ما تكون نتائجها عكسية.
الأصل ان يكون المكيال واحد ثابت لا يتغير حجمه لكل شيء يكيله ،،، والتحيز لحزب وحرمان حزب آخر يعرّض مفهوم العدالة الشامل للخطر ويتسبب برد فعل عكسي، ويولد صراعات ويخلق بيئة مناسبة لظهور تيارات راديكالية ستُدخل البلد في آتون أزمات نحن في غنى عنها.
واضحٌ جدًا أن أزمة الدولة بإدارتها وغياب الرؤية والحسم في إصلاح حالها ، وتورطها بالاستمرار في الإقصاء لن يُسهم إلا في اتساع الفجوة مع الرأي العام الذي يشهد اختناقات مزعجة ،،، ففي الشرح ما يكفي من دلالات للتأكيد ان الدولة فشلت في أن تكون راعياً ومنصفاً وعادلاً ، واخفقت أجهزتها في تسويق آليات العمل الحزبي ومنظومة الإصلاح السياسي.
على أي حال ، من قَرأ ورَصد مشهد الأحزاب السياسية في الأردن بشكل عميق ، يجد أن مزاج الاردنيين تجاهها غير مريح ، ويصل أحياناً درجة العداء ، والعمل الحزبي في الأردن كما ذكرت في مقالات سابقة سيأخذ وقتاً حتى يتمكن من التغلغل في حسابات الأردنيين السياسية ،،، وهذا ما أشارت إليه نتائج الاستطلاع الأخير لمركز الأبحاث والدراسات في الجامعة الاردنية.
وبالتركيز على القراءة الكلاسيكية التي نعتمدها لقياس حضور الأحزاب السياسية على الساحة الاردنية ، نرى أكثرها ضعيف ومحدود الانتشار ، وغير جامع لعدم قبول الناس به ،،، وجُلّ تلك الأحزاب ناشئة من مستجدي السياسة وصبيانِها.
إذاً : ما الذي يخيف الدولة من هذا الحزب أو ذاك لنخرجه من المعادلة السياسية ؟
حقيقةً ، واقع الصدمة لم يوفر لنا المناخ الهادئ لنعرف ماذا حصل ؟ فالذي حصل هو ليس أكثر من تصور عبثي ساذج مبني على أوهام ،،، وقد يكون مخططٌ له من منصات خلفية ! يدخل في خانة عدم النُضج الذي ارتفعت وتيرته بفعل غَلبَة التفكير السلطوي واللاعقلانية التي تَشرأبَت بها منظومة التفكير السياسي الأردني على العقل السياسي.
إن شيطنة الاحزاب فكرة خبيثة وأسلوب شمولي مرفوض الهدف منه الردة عن الإصلاح ،،،،، فجميع الاستطلاعات الشعبية تُظهر بأننا نسير نحو واقع قد يقوض المشاريع الإصلاحية وأن نضحّي بسياسة الاحتواء والتنفيس الناعمة التقليدية التي عرفها الأردن قديماً في سياساته الداخلية، وتأثّر بها رغم ما تعتريه من غموض أحياناً ، ومعارضة في بعض الأحيان ،،، لكن السياسة الاحتوائية في الاردن ظلت سياسة قائمة في خطوطها الرئيسية تطبقها الدولة وقت الحاجة.
وصاحب نظرية الاحتواء هو المؤرخ والدبلوماسي الأمريكي George F . Kennan 1904 – 2005 والتي استخدمها أول مرة في مقالة كتبها ونشرها في المجلة الامريكية الشهيرة Foreign Affairs في عددها الصادر في صيف عام 1947 في عهد الرئيس الأمريكي Harry S . Truman ، وهي سياسة دفاعية Policy Of Containment تقوم على استقطاب دول العالم حرصاً على عدم وقوعها في النفوذ الروسي ( الاتحاد السوفيتي ) في ذلك الوقت من الزمن ،،، فالاحتواء فعل استباقي وإجراء متبع إزاء الدول المُسالمة لئلا يخرج من أصلابها من يلعنها ويسبها.
سأكون اكثر وضوحًا : إن الفاعلين هنا وهناك لم يدركوا أن خروج أي حزب سياسي من المعادلة السياسية ( بفعل فاعل ) سيؤدي إلى صعود تيارات غاضبة والى احتضان كافة منتسبي ومؤيدي تلك الاحزاب من قبل احزاب اخرى تتمتع بشعبية كبيرة في الشارع الأردني.
إن الاستبداد والعناد و فردانية الرأي شيء أعمى يسير عكس حركة التاريخ ، وهو بنية سياسية يصعب القضاء عليها إلا بتغيير العقول ،،، فنحن نرى ما لا ترون ! ونسمع ما لا تسمعون ! فعلى ما يبدو أن مهارة الدولة العميقة وخبرتها في سياسة الاحتواء فقدت استراتيجيتها ومعظم مسوّغاتها الاساسية.