بقلم : المهندس سليم البطاينه
يَصعُب ان تكون هناك اجابة حقيقية لمعرفة ماذا حدث ؟ وما الذي لم يحدث ، أو حتى الاستعداد لما قد لا يحدث ، والتعامل مع ما حدث ؟ فلا يخفى على احد دور الازمات في تاريخ الشعوب والمجتمعات على صعيد الهدم أو البناء .
استاذة الاقتصاد في جامعة لندن Jane Harrigan تقول ( ان خطط صندوق النقد الدولي تُقدّم نفسها على انها خطط اصلاح اقتصادي هيكلي لاقتصادات اغلبها فشلت في احداث التنمية ، وغرقت في الديون ،، وأن البلدان التي تركض وراء الصندوق في الغالب تكون تحت وطأة أكثر من نوع من الازمات ).
واقع الامر يقول ان برامج صندوق النقد الدولي التي قُدّمت للأردن فشلت في احداث تنمية وأغرقت البلاد بالديون ولم تحقق النتائج المرجوّة ،، وهذا ما أثبتته المراجعة السادسة للأداء من قبل فريق الخبراء في الصندوق في أيار الماضي ٢٠٢٣ ! أي ان البرنامج الحالي ٢٠١٢ -٢٠١٦ والممتد تمويلياً حتى أذار ٢٠٢٤ فَشِل في تخليص الاقتصاد من الصفة الاحادية وتحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية ،، فما زال الاقتصاد الاردني يوصف بأنه اقتصاد ريعي احادي الجانب يعتمد اعتماداً كلياً على المساعدات والمنح والقروض والضرائب والرسوم.
المفاجأة كانت عام ٢٠٠٤ بعد انتهاء برنامج الاصلاح الهيكلي للاقتصاد الاردني ١٩٨٩ – ٢٠٠٤ ، وقتها ظن الاردنيون ان الدولة فكت ارتباطها مع صندوق النقد الدولي ، وانتهت تلك المرحلة وأصبحت من الماضي ،،،، رغم ان ذلك البرنامج نجح لحد ما في وقف الكارثة عندما انهار الدينار ،،،، حينها عقد صندوق النقد الدولي ٦ اتفاقيات إقراض مع الحكومة نتج عنها هبوط عجز الموازنة تدريجياً في ذلك الوقت من ٢٠٪ من الناتج المحلي الاجمالي إلى أقل من ٣٪.
عمليًا بعد عام ٢٠٠٤ ولمدة ٨ سنوات توقفت الحكومات جميعها عن عقد اية اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي ورحلت برامج الصندوق عن الأردن ، لكن للأسف تركت وراءها أزمات معاكسة للحلول.
الأكثر خطورة ما حدث عام ٢٠١٢ عندما تم دعوة صندوق النقد الدولي للعودة من جديد ( برنامج اصلاح هيكلي ) لمعالجة عجز الموازنة الذي وصل إلى أكثر من ١٦٪ من الناتج المحلي ، وارتفاع عجز شركة الكهرباء الوطنية وسلطة المياه والعجز الكبير في ميزان المدفوعات والحساب الجاري ! وتقلُّص احتياطات البنك المركزي بنسبة ٤٠٪ في أقل من سنة !
فمنذ منتصف عام ٢٠١٢ وحتى الان ظلت أرقام المديونية على الارض تنطق بلغة أخرى ! وتحولنا من مرحلة تقليص العجز في الموازنة الى مرحلة تضخيم العجز ، ولم ينجح الصندوق في اصلاح الاختلالات البنيوية للاقتصاد الاردني ، ولم يَحدث تنمية ملموسة لا على مستوى الاقتصاد الكُلي ولا على مستوى القطاعات الفردية ، ولم نشهد اقتصاد مُنتج يعتمد على الطلب والانتاج ، فقد غابت السياسات ذات البُعد التنموي وتم تدمير هياكل الانتاج.
كُل ذلك يُؤكّد أن قروض البنك الدولي وبرامج صندوق النقد الدولي التي قُدمت للاردن لم تفعل شيئاً لمعالجة المشاكل الهيكلية ، بل نتج عنها كثير من التشريعات والتغيرات في السياسات الاقتصادية أدّت الى اتّساع الهوّة الاقتصادية ، والى تفاقم الهشاشة الاجتماعية ،،، ووتّرت العلاقة بين الشارع والدولة على نحو مقلق وضار ، ورفعت من كلفة المعيشة على غالبية الاردنيين.
لقد تحمل فقراء الاردن كافة النتائج السلبية لوصفات وروشيتات الصندوق ، وشهدت أنظمة الحماية الاجتماعية تراجعاً كبيراً !! فَوفق تقرير صدر عن البنك الدولي في تموز ٢٠٢٢ قُدّر عدد الفقراء في الاردن بحوالي ٣ مليون و ٩٨٠ الف شخص من أصل ١١،٣ مليون نسمة.
فالخفض في الانفاق بعد عام ٢٠١٢ حسب تعليمات الصندوق ادى الى هبوط معدلات النمو الاقتصادي ، والى تدهور منظومتي التعليم والصحة ،، وتدهور مستوى معيشة الاردنيين ! والى تراجع الدخول والانتاج ، والى تزايد نسب البطالة الى ارقام مُرعبة ، والى وَقْف وتقليص الوظائف في الجهاز الحكومي ،،،، وهذا الموضوع للأسف لا يُمثل مشكلة برأي خبراء صندوق النقد الدولي ! فالمهم بالنسبة لهم توفير وتأمين أقساط وفوائد الدين العام الخارجي.
مضى أكثر من ربع قرن من اعادة هيكلة الاقتصاد ، لكن للاسف تم العمل على اصلاح المديونية بمزيد من الدين ! حتى وصلت الى أرقام تتوه تحتها خدمة تلك الديون ،،، فالاقتراض وصل حد الطيش !والضرائب في الاردن تخطّت الكثير من دول العالم ، وتُشكل وحدها نسبة ٨٠٪ من الناتج المحلي ،،، والحكومات اصبحت مُجبرة على الانفاق على خدمة الدين الخارجي أكثر مما تنفق على الصحة والتعليم ! وهو ما يجعل الاردن يَغرق في كارثة تنموية ،،، فمنذ أكثر من عشر سنوات ونحن نُشاهد اقتصادنا ينحدر نحو الهاوية.
إن استقرار الاقتصاد الكُلي يعتبر شرطاً ضرورياً من اجل التنمية والنمو ، حيث يتربط اداء الاقتصاد ارتباطاً وثيق الصلة بالادارة ، فكلما كانت ادارة الاقتصاد جيدة ستنعكس بلا شك على اداء الاقتصاد الكُلي ،، فـ في الدول المُزدهرة لطالما كانت السياسة اداة للتنمية ،،، فثمة علاقة طردية بين التنمية والنهوض والوعي السياسي ،، وحتى تنجح رؤية التحديث الاقتصادي في الاردن يجب ان يكون هناك نمو يزيد عن ٥٪ ، فيما النمو الحالي لا يزيد عن ٢،٣٪ ، وأن يكون لدينا إدارة سياسية لأزمة الاقتصاد ، وسياسة اقتصادية اجتماعية تكفل نمواً مُنصفاً للفقراء وتحقق أعلى عدالة توزيع ممكنة.
أزماتُنا تزداد عُمقاً واقعها واضح ، وهي ضاغطة ومُلحة تتزايد يوماً بعد يوم دون ان يملك احد جراءة التنبؤ ، فقد تحدث دون سابق انذار ! والمديونية الداخلية بالدينار لا تقل خطراً عنها بالدولار ،،، لأن صندوق النقد الدولي ليس مُكلّفاً بحمايتها أو التحرك لصالحها !! فهناك جزء كبير من الدين الداخلي بالدينار مطلوب لمؤسسات وطنية أردنية.
ان الازمة التي تعاني منها الاردن ليست أزمة جزئية، وعند مرور دولة من بأزمة اقتصادية فإن اول ما تفعله هو وقف تحصيل الضرائب أو خفضها لتنشيط دورة الاقتصاد ، وزيادة القدرة الشرائية للمواطن ، وبالتالي تحريك الاسواق وزيادة الطلب على السلع والخدمات ،،، لكن على ما يبدو الخلل مستمر في المضمون لا في الشكل وتعثر البلاد يدرك الجميع اسبابه وابعاده ،،، وما يجب فعله هو الاعتراف بأن هناك أزمة وأنها أكبر من امكانيات الحكومة والمؤسسات الاخرى المعنية بالاقتصاد والمال ،،، فالاولويات التي يجب وضعها هي سياسية في المقام الاول وليست فنية أو مالية ،،، وهذا يستدعي تواجد فريق واعٍ من الرجال لادارة أزمة الاقتصاد بأقل الخسائر لحين ميسرة ، والي مكاشفة وطرح يخرجنا من حالة المجاملة ومن حالة التغافل والتردد ،،، فقد باتت القضية الاقتصادية والمالية والنقدية لا تحتمل غياب الحقيقة والوضوح ،،، فـاقتصادنا لا زال يبتعد عن الخروج من حالته المأزومة ! وجميع المؤشرات والبيانات بعد المراجعة السادسة تؤكد ذلك ، حيث اصبح من الصعب تحديد ما الذي يمكن ان يؤدي الى الخروج من مشكلتنا الاقتصادية.
بالتأكيد سنكون أكثر ابداعاً لو توكّأنا على عصانا ، واخترعنا حلول لمشاكلنا ،،، ولدّي سؤال موجه لمسؤولي صندوق النقد الدولي المعنيين بملف الاردن : هل قام خبراء الصندوق بتحليل قدرة الاردن على تحمل كل تلك الديون ؟