لا يغمض للأردن جفن منذ أطبقت على غزة حمم الموت الإسرائيلي، وتئن المملكة لأنين القطاع المنكوب، غداة اكتمال مئة يوم من المحرقة التي تتوالى فصولها على مرأى من عالم عاجز عن لجم العدوان.
يتلقى القطاع منذ السابع من تشرين الأول الماضي، أطنانا من حمم الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي تستهدف البر والبحر والجو والتجويع والتشريد والحصار والتضليل.
بهذه الأبعاد السباعية للعدوان، تقتل إسرائيل بإمعان الأطفال والنساء والشباب وكبار السن والفئات الضعيفة في إبادة جماعية معلنة، لم يشهد لها التاريخ البشري مثيلا.
داس الاحتلال على القانون الدولي ومواثيق الأمم التي تشدق بها العالم عقودا طويلة.
خلال 100 يوم من العزلة وبحر من الدم أغرق الاحتلال الإسرائيلي غزة بدم أبنائها، ولم يقف الأردن مكتوف الأيدي أو معصوب العينين، بل رفع صوته عاليا، وفي كل دوائر صنع القرار الدولي ورفض تهجير الفلسطينيين من غزة، وبادر إلى إدخال المساعدات عبر الإنزال الجوي أو الدخول عبر الحدود البرية، وكان جلالة الملك عبد الله الثاني يقود هذا الجهد بكل بقوة.
جلالته أكد غير مرة في لقاءاته واتصالاته المستمرة مع قادة دول العالم، وفي المحافل الدولية والعربية بضرورة وقف الحرب على غزة، ورفض نكبة وتهجير جديد، ومنع الحصار وسياسة التجويع.
وفي الأمم المتحدة، كانت وزارة الخارجية الأردنية على مدار أيام تحشد كل الأدلة والمسوغات من أجل أن تتبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يوقف العدوان الوحشي.
وشكل تبني الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة، مشروع القرار الذي تقدم به الأردن الذي يطالب بوقف العدوان على غزة وإيصال المساعدات لسكان القطاع؛ خطوة أردنية مهمة للضغط على إسرائيل لوقف هجومها على قطاع غزة.
وأكد جلالته في خطاباته ولقاءاته التي بدأت بقمة السلام في القاهرة، مرورا بقمة الرياض، وصولا إلى منتدى جنيف للاجئين، وخطابه في موقع الإبادة الجماعية برواندا، والقمة الثلاثية في العقبة بأن الظلم الواقع على الأشقاء الفلسطينيين دليل على فشل المجتمع الدولي في إنصافهم، وضمان حقوقهم في الكرامة، وتقرير المصير، وقيام دولتهم المستقلة على خطوط الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وشدد جلالة الملك على ضرورة تعزيز التنسيق بين مختلف الأطراف الدولية المعنية لردم الفجوات، وتجنب ازدواجية الجهود وحصر التحديات في قطاع غزة، من أجل العمل بشكل تشاركي على توفير المساعدات المطلوبة وإيصالها ضمن آليات مستدامة تعزز الجهود الحالية، والبدء بعملية جادة للسلام في الشرق الأوسط وعدم السماح بإعاقتها تحت أي ظرف، وإلا فإن البديل هو التطرف والكراهية والمزيد من المآسي.
وهب الأردنيون لتلبية احتياجات إخوانهم الطبية والغذائية، وكان جلالة الملك عبدالله الثاني في مقدمة الصفوف، ويوجه بإرسال المساعدات الإنسانية والطبية للأشقاء الفلسطينيين في قطاع غزة بأقصى سرعة، وكان للهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية وجهودها المتواصلة منذ عام 2008 باعتبارها الجهة الوحيدة المخولة بجمع وإرسال المساعدات إلى فلسطين عامة، وقطاع غزة خاصة؛ تخفيفا عنهم ودعما لصمودهم.
وجاءت المستشفيات الميدانية العسكرية الأردنية المزودة بطواقم من ذوي الاختصاصات الطبية المختلفة لتمثل أحد أهم أشكال الدعم الأردني في تقديم الرعاية الطبية اللازمة للذين تعرضوا لإصابات متنوعة جراء الاعتداءات الإسرائيلية العنيفة والمتكررة، وإرسال مساعدات طبية وإغاثية عن طريق إنشاء جسر جوي من مطار ماركا العسكري إلى مطار العريش في جمهورية مصر الشقيقة، تشمل مواد طبية وغذائية وإغاثية، بالإضافة إلى تنفيذ إنزالات لمساعدات طبية عاجلة جوا إلى المستشفى الميداني العسكري في مدينة غزة، والمستشفى الميداني الأردني الخاص/2 في خان يونس بواسطة المظلات.
وانطلاقا من دور الأردن المشهود في التخفيف من آثار العدوان الغاشم الذي تعرض له القطاع بعد السابع من تشرين الأول، وخروج مستشفيات قطاع غزة عن العمل، وبتوجيهات من جلالة القائد الأعلى للقوات المسلحة الأردنية، واصل الأردن دعمه المستمر لأبناء الشعب الفلسطيني، بإرسال المستشفى الميداني الأردني الخاص/2 جنوب قطاع غزة إلى مدينة خان يونس بسعة استيعابية 41 سريرا، بمختلف الأقسام والعيادات وبسعة 41 حاضنة، تديريها 145 من الفرق والكفاءات الطبية في الخدمات الطبية الملكية، ويعمل إلى جانب المستشفى الميداني الأردني نابلس/1، والمستشفى الميداني الأردني غزة/1 الذي أرسل في كانون الثاني عام 2009 واستمر مدة 15 عاما، واستقبل خلال هذه المدة نحو مليوني مراجع من الأشقاء في قطاع غزة، وكان أول مستشفى عربي يصل إلى القطاع.
وبلغ المجموع الكلي للمراجعين في المستشفى الميداني الأردني نابلس/1 منذ 23 من تشرين الثاني وحتى 11 كانون الثاني الحالي نحو 20936 مراجعا، وإجراء 497 عملية، بالإضافة إلى إدخال 106 حالات.
وبلغ عدد طائرات المساعدة المرسلة من خلال الهيئة الخيرية الهاشمية الأردنية وشركائها، منذ الحرب على غزة وحتى اليوم، نحو27 طائرات مرسلة من خلال الهيئة.
فيما بلغ عدد شاحنات المساعدات المرسلة من خلال الهيئة وشركائها، 133 شاحنة مساعدات و48000 مستفيد ومستفيدة من المساعدات، و5000 طن مواد إغاثية وغذائية وطبية في المستودعات.
ومع استمرار القصف الإسرائيلي المكثف على أنحاء القطاع كافة غزة، استشهد حوالي 24 ألف فلسطيني على يد الاحتلال الإسرائيلي في غزة منذ 7 من تشرين الأول الماضي، منهم 70% من النساء والأطفال، وأصيب نحو 64 ألف فلسطيني، غالبيتهم من الأطفال، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.
وتشير التقديرات إلى أن حوالي 8000 شخص من المفقودين تحت الأنقاض، وما تزال كمية المساعدات التي تصل إلى غزة غير كافية إلى حد كبير، لدعم أكثر من مليوني شخص.
وتتعرض المرافق الطبية لهجمات لا هوادة فيها بينما تكتظ بحالات الصدمة، وتعاني نقصا حادا في الإمدادات والمعدات الطبية والكهرباء والوقود، حيث يعمل 15 مستشفى فقط من أصل 36 مستشفى في غزة جزئيا، منها تسعة في الجنوب، وستة في الشمال تلقت الدعم لاستئناف العمليات الأساسية جزئيا.
وتقدم المستشفيات في الشمال حاليا خدمات رعاية الأمومة والصدمات والطوارئ، لكنها تواجه العديد من التحديات، بما في ذلك النقص في الطاقم الطبي مثل الجراحين المتخصصين وجراحي الأعصاب وموظفي العناية المركزة، وفي المنطقة الجنوبية، تعمل المستشفيات التسعة التي تعمل جزئيا بثلاثة أضعاف طاقتها، ما يؤدي إلى تفاقم النقص الحاد في الإمدادات الأساسية والوقود.
وتواجه غزة نفادا خطيرا في مخزون اللقاحات، ما يسهم في حدوث أكثر من 360 الف حالة من الأمراض المعدية في ملاجئ الأونروا، كما تشكل البقايا المتحللة خطرا في حدوث أزمة في الصحة العامة.
ويواجه الناس في غزة ضغوطا نفسية شديدة يوميا، بما في ذلك القصف والحواجز الشديدة التي تحول دون تلبية الاحتياجات الأساسية، إلى جانب الإصابات الجسدية الخطيرة مثل فقدان أجزاء من الجسم، وتتفاقم هذه التحديات بسبب التأثير المدمر لرؤية جثث الضحايا من حولهم وفقدان أفراد الأسرة والمنازل والكرامة، كما يشخص أكثر من 2000 شخص بالسرطان كل عام، من بينهم 122 طفلا.
وهناك أكثر من 52 ألف امرأة حامل، حوالي 183 ولادة يوميا، و5500 طفل ولدوا في الشهر الماضي، و61% من الحاضنات في الشمال تحتاج إلى كهرباء، و130 طفلا خداج يعتمدون على الحاضنات، إذ تواجه النساء الحوامل والأطفال النازحون في الملاجئ تحديات مثل العطش وسوء التغذية وعدم كفاية الرعاية الصحية والجفاف وأمراض الجهاز التنفسي والجلدية والبرد الشديد ونقص التطعيمات.
وخلال 100 يوم قيدت إسرائيل إدخال كل شيء إلى القطاع، ما يعني أن اسرائيل تدفع المدنيين الفلسطينيين في غزة نحو المجاعة، وفي هذا ذكرت منظمة اليونسيف أن حوالي 90% من الأطفال دون سن الثانية يواجهون فقرا غذائيا حادا.
وتأثرت 94 منشأة صحية منها 26 مستشفى متضررة، بالإضافة إلى 121 سيارة إسعاف متوقفة عن العمل، بيد أن الضرر لحق بالبيئة الطبيعية بكاملها، والتي تشمل الماء والهواء والتربة، من خلال استخدامها مختلف أسلحة الدمار الشامل المحرمة دوليا مثل الأسلحة الكيميائية والمشعة والفسفور الأبيض واليورانيوم المنضب وأسلحة أخرى لم تستخدم إلا في هذه الحرب المسعورة التي تجربها دولة الاحتلال الإسرائيلي على الأبرياء المدنيين في فلسطين، كما تسبب بزيادة الغازات والدخان والغبار، وأثر سلبا على نوعية الهواء الذي غدا المسبب الرئيس لكثير من الأمراض خاصة الجهاز التنفسي.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد النازحين نحو مليوني نازح، و8822 حالة اعتقال، و3 ملايين و550 ألف وحدة سكنية متضررة، منذ السابع من تشرين الأول وحتى الآن.
ونتيجة للإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بلا هوادة ضد المدنيين العزل في غزة، عقدت محكمة العدل الدولية في مدينة لاهاي الهولندية الخميس الماضي، أولى جلسات الاستماع في القضية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد الاحتلال الإسرائيلي بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
وقال الفريق القانوني لجنوب أفريقيا إن تل أبيب تكثف جرائمها وأعمال الإبادة الجماعية في فلسطين منذ عام 1948.
وقال وزير العدل في جنوب أفريقيا رونالد لامولا إن رد تل أبيب على عملية السابع من تشرين الأول تجاوزت الخطوط بشنها هجوما كبيرا على قطاع غزة.
وبينت الممثلة القانونية لجنوب أفريقيا أن غزة تمثل جزءا من الأراضي الفلسطينية التي تحتلها تل أبيب منذ عام 1967، وتواصل سيطرتها على المخارج كافة؛ ما يمنع الدخول والخروج من القطاع، وهي المكان الذي يعد من الأكثر اكتظاظا في العالم، لافتة إلى أن إسرائيل عرضت غزة لأكثف حملة عسكرية في التاريخ المعاصر، حيث يقصف الفلسطينيون في غزة برا وبحرا وجوا، وهم معرضون لخطر الموت جوعا نتيجة الحصار، وعدم إدخال المساعدات بالكميات الكافية، بالإضافة إلى عدم إمكانية توزيع هذه المساعدات بالطريقة المثلى نتيجة القصف المستمر للقطاع.