يُطرح اليوم في العالم سؤال مهم : من يصنع الرأي العام ؟ ومن يقود المجتمعات نحو المستقبل ؟ وهو سؤال برأيي يشغلُ المجتمعات العربية أكثر من غيرها نظراً لتآكل النخب العربية التي تخلّت عن ادوارها وعزلت نفسها ، وتشرنقت على ذاتها ! وأكتفت بالفرجة والتصفيق والسير خلف القطيع.
بين يدي دراسة المانية بهذا الخصوص نشرها موقع ( JECA )التابع لمعهد GIGA-Hamburg الالماني للدراسات العالمية والمجالية : تناولت الدراسة بشكل مفصل أسباب تراجع النُخب العربية بشكل غير مسبوق خلال السنوات الماضية وإعتمادها على الريع السياسي والامتيازات ! والتهافت على المناصب والكراسي والمؤسف أن الدراسة وصفت النخب العربية بأنها تعيش في كنف الجنون لا الحكمة السياسية.
معروفٌ ان النُخب تَصنع الدول ، أو هذا ما نعتقده ،،، والثقة السياسية المقصود بها الثقة بالنخب السياسية ،،،، والحديث عن نخبة سياسية محلية حقيقة في الاردن بالمعنى الصحيح لمفهوم النُخبة هو أمر محاط بكثير من المحاذير ،، كون معظم النخب الموجودة حالياً على الساحة ، الحاكم منها والمعارض لا تملك الرؤية التي يمكن أن تنهض بالاردن ، نتيجة عدم قدرتها على تحرير نفسها من سطوة الصورة ،،، فـ لا نهضة دون وعاء سياسي متين.
فـمن شواهد التاريخ أن لكل مرحلة صغارها وكبارها ! ولكلتا المرحلتين شروطهما ،، والمرء حيث يضع نفسه ،،، وإذا قمنا بالتدقيق لمعرفة أزمات النُخب الاردنية ( السياسية والاقتصادية والثقافية … الخ ) لوجدنا أن غالبيتها تعيش أزمات مُركبة ليست وليدة عوامل ظرفية ! بل نتاج تراكمات على مدى سنوات من الزمن السياسي والتنموي المهدور ، والجزء الاكبر من تلك النخب تقاعدت من السياسة والايدلوجيا بعد أن داهمتها الصدمات وقادتها الى وضع مأساوي في العجز والافلاس.
حتى رموز العشائر فقدت تأثيرها على مجريات الحياة السياسية ! وبدت غير قادرة على إفراز الزعامة الوطنية المحلية ،، وبات الصراع على مراكز القوى بين العشيرة الواحدة ظاهرة سلبية آخذة في الإتساع.
دعونا من الجدل ولنكن أكثر صراحة : السياسة في في الاردن فارغة من التغيير ! والوظيفة السياسية تم أغتيالها والخيال السياسي مُصاب بالخمول والاغتراب وأدى الى انهيار كثير من الهياكل وتسبب في خلل في لاعبي السياسة والاقتصاد ، وتم استبدال النُخب بالمؤثرين وصُناع المحتوى والتفاهة وانتقل مركز الفعل السياسي من الفضاء العام الاكثر أماناً الى الفضاء الافتراضي ،،، وتحوّلت السياسة إلى مجاملات في العلن ونميمة في السر ! وحُفراً للخصوم ! وشاهدنا صراعات بين نُخب خسرت مواقعها ونفوذها السياسي وبين نُخب أخرى حلت محلّها نتيجة بزوغ نجم قواريط السياسة الذين تسببوا بالعطالة وتعكير اجواء العمل السياسي.
بالتأكيد هناك سن للرُشد السياسي ! إلا في الاردن الوضع مختلف وربما نحن كأردنيون ننفرد بهذا الوضع من دون منافسة مع أي دولة في العالم نتيجة خلطات دُنيا السياسة في الاردن ! والتي هي من أغرب الخلطات في العالم ! فـ هي خليط ما بين الاصدقاء والانسباء ، والزبائنية ! وأبناء الذوات.
فـسابقاً لم يكن دور النُخب مفهوماً في الاعلام ! إلا أن هناك نخباً صنعها الاعلام الموجه في غفلة من زمن الترحال السياسي وتبادل الادوار تحالف فيها النفوذ والمال في مواجهة المجتمع ، وصيغَت مجموعة من القوانين والتشريعات لتكريس سلطتهم وحماية مصالحهم ، تحولوا بها إلى أوليغارشيات سياسية ومجموعات اقطاعية تنعم بخيرات البلاد ومواردها وفرصها ووظائفها دون أن يقدموا شيئاً.
إن أخطر ما يمكن أن يُبتلى به الفعل السياسي هو تسكين اللاعبين فيه للأبد ، فقد عانينا من مرحلة مضنية سادها الاضطراب والخيبة والاحباط والتراجع ، سقط بها معظم النُخب واصبح الشارع هو من يحدد المسارات ! وهنا لابد لنا من مراجعة عميقة وقرارات صعبة للأنعتاق من الرتق السياسي لصناعة نُخب جديدة تؤمن بالتغيير ولا تتصرف خارج النص ، تضع خطاباً جديداً يقود الاردن الى بر الامان الى حيث الدولة المدنيّة التي تحفظ حقوق الجميع وتمنح الفرصة لحياة سياسية طال إنتظارها.