كتب- د.عبدالحكيم القرالة:
خمسون عاماً مضت على «الكرامة» الزمان والمكان، والعبرة، فداء وتضحية، وجنود بواسل ضربوا مثالاً في العزة والإباء، أبوا إلا ان يعيدوا للوطن والأمة كرامتها، ردوا بدمائهم وأرواحهم كل معتد آثم حاول أن يمس الوطن ويأخذه على حين غرة.
سنوات مرت على معركة الكرامة الخالدة التي سطرت بحروف من ذهب تاريخا مشرقا من التضحية والصمود والدفاع عن الوطن بالمهج والأرواح، وانتصارا لفلسطين القضية والتاريخ.
معركة كانت شاهدة على عصر هزيمة عدو لطالما تباهى بقوته باعتباره الجيش الذي لا يهزم، والذي تبددت قواه أمام ارادة وعزيمة لا تلين ،مثلت صخرة تكسرت عليها اسطورة الجيش الذي لا يقهر.
سنون مضت ولا يزال نصر الكرامة يسطر أبهى معاني الرجولة والفداء، حين استبسل نشامى الجيش العربي في الدفاع عن تراب الوطن بأرواحهم، شهداء خضبوا بدمائهم الطاهرة تراب الوطن ليرسموا ملحمة كانت شاهدا على اعادة الكرامة للوطن والأمة.
خمسون عاما على انتصار أعاد الروح والمعنوية للامة العربية فخرا واعتزازا بجيش عربي أردني استعاد كرامة أمة زهقت قبل عام في نكسة عام 1967، فجاءت الكرامة نصرا معنويا ورد اعتبار.
الكرامة كانت درسا قاسيا للعدو الإسرائيلي وجيشه برغم فارق الإمكانات العسكرية، إلا أن روح الفداء والتضحية التي تحلى بها جنودنا البواسل وأشقاؤهم الفلسطينيون تجاوزت كل الفوارق لتصنع مجدا ونصرا مؤزرا لا يعرف أسراره إلا من سطروه بدمائهم الزكية.
المحادين: الكرامة توقيتا ومعاني مستودع روحي ووطني تستلهمه الأجيال
وفي هذا يقول استاذ علم الاجتماع في جامعة مؤتة الدكتور حسين المحادين: لقد تميزت معركة الكرامة بالكثير من السمات والمعاني الوطنية والعربية اللافتة، جسدت فيها معنى التوحد الأردني الفلسطيني بقيادة القوات المسلحة الأردنية التي جسدت بدورها صدقية وتضحيات النشامى الأردنيين بايمانهم بحقيقة توأمة فلسطين والأردن، ولكن هذه المرة خضبت هذه المفاهيم الناجزة باعلام شهداء ومعاني الصبر والتضحيات لرفاقهم من مشاريع الشهداء.
ويضيف في حديث له أن معركة الكرامة تفردت بالصمود الأردني الأسطوري الذي تجلى بطلب العدو الإسرائيلي وقف المعركة وأنها كسرت غرور الإسرائيليين وأجبرتهم نتيجة لاعتقادهم أن هزيمة العرب في الـ67 قبل شهور من معركة الكرامة ستؤهلهم أن يفرضوا ما يريدون على الأردن وغيره من الدول العربية، وهذا ما ثبت بطلانه بقيادة الراحل الملك الحسين طيب الله ثراه والجيش العربي.
كما وتفردت معركة الكرامة، وفق الدكتور المحادين، بأنها أعادت الروح المعنوية للأردنيين والعرب التي خدشت بهزيمة العرب في الـ67 وفقدانهم جزءا من فلسطين ولم يمض عام على الجرح حتى جاءت الكرامة كمعادل ميداني ونقيض مهم لإعادة الثقة بالنفس العربية والجيوش العربية.
ويرى ان هذا الامر لم يكن ليكون الا بفضل صمود واصرار ابناء الجيش العربي الاردني على تجسيد ايمانهم بوحدة الكفاح والمصير العربيين وإصرارهم على دحض فكرة العدو الموهومة التي كانت تقال مبالغة بأنه الجيش الذي لا يقهر.
ووفق المحادين، فإن الكرامة قد سارعت في إعادة الاعتبار للثقة بالنفس والالتفاف حول القيادة الهاشمية التي جسدت معالمها فكرا عروبيا وإسلاميا ونبضا حياتيا مع أبناء الوطن بكل مكوناته وقيادته للنجاح في المعارك في السلم والحرب بصورة متماثلة.
ويقول: «ستبقى الكرامة توقيتا ومعان مستلهمة مستودعا روحيا ووطنيا بقيادتنا الهاشمية تستلهمه الاجيال وتدرسه المعاهد العسكرية كنموذج فريد تمكن بإرادته وإيمانه رغم محدودية إمكاناته أن يهزم من كان يروج زورا أنه الجيش الذي لا يقهر.
غير ان المحادين يلفت الى أن كثيرا من الدول العربية صبغت على نفسها صفة الثورية والسعي لرد الاعتبار قد انقلبت على حكوماتها وقد أفادت تلك الدول بعيد معركة الكرامة بحجة هزيمة العدو والثأر من الهزيمة وما إن تولت السلطات حتى تغيرت اولوياتها وما نتج عن تلك التغيرات العربية باسم فلسطين إلا انعكاسا سلبيا بحجة أن فلسطين عند هذه الحكومات «الثورية» تتقدم على الديمقراطية وعلى كرامة المواطن ورغيفه.
ويرى أنه وبهذه التغيرات فقدنا مرة اخرى باسم فلسطين الكثير من المشروعات التنموية والتغيرات الديمقراطية والتي بقيت مشتهاة من قبل الدول العربية أثناء وبعيد الربيع العربي.
غير أن الدكتور المحادين يرى أن الدولة الاردنية قد تعمقت وراكمت على منجزات شهداء الوطن واجياله الكثير الكثير من ما هو مثار اعتزاز وتقدير وفي ذروتها الأمن الاجتماعي والوطني والذي كنا ولا زلنا نتفيأ منه ضمن اقليم ملتهب.
وفي هذا السياق يؤكد المحادين بأن الأردنيين أثبتوا قيادة وشعبا أنهم البُطين الأيمن لإخوانهم في فلسطين وما موقف الأردن المغالب باتجاه القدس ورعاية ومتابعة المقدسات الاسلامية والمسيحية فيها وما يعانيه الوطن من حصار أو محاولات عبث من «أخوة يوسف» إلى امتدادا لما جسدته الكرامة والتضحية بالدم والوضوح.
ويشير إلى أن الأردن كان دائما منحازا إلى الأمة بقيادته وتضحيات جيشنا العربي الذي يحمله هذا العنوان قولا وتضحيات مستندا إلى شرعية الدولة واستمرار شرعية الهاشميين دينا ودنيا لكونهم بوصلة هذه الأمة نحو الحرية ورغيف الخبز الكريم والاخوة بين المهاجرين والانصار وليس انتهاءا بتجسيدهم للنموذج الاسلام الوسطي والمتسامح.
ويرى الدكتور المحادين أن الأردن يجسد الأنموذج الاسلامي المعتدل خصوصا في هذا الوقت الذي يتشدق به المتطرفون وخوارج العصر بأنهم يمثلون الاسلام والاسلام ومتمثليه الحقيقين براء مما نسب اليهم وما رسالة عمان وأيام الاخاء والعيش المشترك إضافة إلى جهود جلالة الملك عبدالله الثاني في مخاطبة العالم عبر المنابر الدولية والاكاديمية التي جسدت معنى الحوار بالتي هي أحسن.
ويتابع المحادين أن كل الجهود التي يبذلها الاردن هي شواهد مضافة على ان الاردن منذ الثورة العربية ومرورا بكل انحيازاته الى امنه في السلم والحرب الا مستودع ضاف من الوفاء والتضحيات والنجاحات التي تراكمت عبر الكثير من الشواهد التي تؤمن بها وتدافع عنها وعيا وانفتاحا على الانسانية وعلومها بكل نبل ونجاح.
الماضي: إعادة النظر في استراتيجيات أطراف الصراع العربي الاسرائيلي
ويرى أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الردنية الدكتور بدر الماضي أن معركة الكرامة أتت بعد هزيمة عسكرية وسياسية ونفسية للجيوش والمواطنين في العالم العربي عام 1967، حيث كان الوقع لهذه الهزيمة شاملا لكل الهياكل والبنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية الامر الذي كان يبشر بنهضة عربية تعيد نوع من الكبرياء للأمة المهزومة بعد ذلك العام.
ويقول: «أتاح ذلك التقييم غير المبني على الواقع أن تتجرأ الدولة الغاصبة والمحتلة «اسرائيل» في أن تتوجه شرقاً نحو الأردن لمزيد من ضم الاراضي وتوسيع حدود الدولة المغتصبة.
وهنا يشير الدكتور الماضي إلى أنه وفي قرار غير مدروس من قبل الكيان الاسرائيلي توغلت القوات الاسرائيلية في آذار من عام 1968 في الأراضي الأردنية باعتبار أن هذا التحرك هو نتاج طبيعي لهزيمة سياسية وعسكرية تعرضت لها الامة العربية في عام 1967، مبنيا في هذا السياق ان هذه التوغلات من قبل الجانب الاسرائيلي الا تعبيرا عن الواقع السياسي والعسكري الذي بدأت اسرائيل بفرضه على على المنطقة .
ووفق الدكتور الماضي «عبّر الرد الأردني وبوضوح عن تلاحم الوحدات السياسية والاجتماعية والعسكرية والتي اجبرت اسرائيل على اعادة حساباتها الاستراتيجية التي اعتقدت بأن خطتها قابلة للتحقيق والتنفيذ بسبب الهزيمة المرة في حرب الـ67
ويلفت الماضي الى ان معركة الكرامة كانت نقطة تحول في اعادة الاستراتيجيات لكل الدول المعنية في الصراع العربي الاسرائيلي ،اذ حققت الكرامة انجازاً مهماً للدولة الاردنية في ذلك الوقت، كما ويشمل هذا الانجاز الدول العربية الأخرى التي لا تمانع من إعادة شيء من الكرامة للأمة من أي طرف عربي.
وحسب الدكتور الماضي «كانت معركة الكرامة بداية لاعادة الثقة في النظام الاقليمي العربي حيث استطاعت ان تضع العالم العربي امام المحك في ان الانتصار على الاعداء يتطلب تضحية ورغبة وصبرا.
وفي السياق ذاته يرى الماضي أن الرسالة كانت واضحة وعبر عنها بدماء الشهداء بأن الأردن عصي على الاختراق وأن القيادة الموحدة والوطنية والتفاف الشعب حولها هي المفتاح الوحيد للدفاع عن الوطن وحاضره ومستقبله.
ويلفت إلى أن معركة الكرامة شدت من أزر الأردن سياسيا وعسكريا أمام الأصدقاء والأعداء بحيث وصلت الرسالة واضحة لا لبس فيها بأن الأردن ليس بتلك الدولة الهشة التي تنتظر النجدة من الصديق والشقيق.
ووفق الماضي «فقد انعكس هذا الإنجاز الربيعي على متانة الوحدة الوطنية الأردنية وكان بمثابة التنبيه من أن أي محاولات اختراق للسيادة الأردنية سيقابل بصلابة وقوة أهل البلاد، مشيرا إلى ان الكرامة وضعت الاردن بابهى الصور أمام الجميع واصبح موقفه في الساحة الاقليمية والدولية لا يمكن تجاهله.
كما ساهمت معركة الكرامة وغيرها من الإنجازات الوطنية والعربية وفق الدكتور الماضي في ان تضع اسرائيل منذ ذلك الوقت وقبله في موقع الدولة المعتدية والتي لا تراعي اهمية الحدود وسيادة الدول.
ويرى ان معركة الكرامة ستبقى خالدة بدماء الجنود الطاهرة وبالمقاتلين الاحياء الذين وضعوا نصب اعينهم رفعة ومكانة الوطن وبقاءه واستمراره ،وستظل عنوان نصر سياسي وعسكري للدولة الاردنية وقيادتها بالرغم من المحاولات التي لم تتوقف منذ ذلك الوقت والهادفة الى سلب الاردن حقه في الشعور بالانتصار.
المجالي: الكرامة منهل للفكر العسكري الحديث وموئل للدروس في الاستراتيجية العسكرية
وهنا يرى الباحث الاستراتيجي العميد المتقاعد صلاح المجالي أن معركة الكرامة لم تكن مجرد حلقة من مسلسل الصراع العربي الإسرائيلي, ولم تكن رغم محدودية مسرح عملياتها وقصر مدتها مجرد صراع حكمته الظروف ونفذته الجيوش، ولم تكن أبدا مجرد معركة تقليدية بأسلحة تقليدية وخطط تقليدية, ونتائج روتينية تسفر عنها أي معركة.
ويقول في حديث له » إن الدراسة التحليلية لرجالها وظروفها وتداعياتها وتفاصيلها الدقيقة تشير بوضوح أنها لم تكن كذلك, بل كانت وستبقى ذكرى وطنيه تحمل في طياتها اسمي معاني الكرامة.
ويضيف الباحث المجالي لقد مثلت معركة الكرامة وما تزال منهلا للفكر العسكري الحديث وموئلا للدروس في الإستراتيجية العسكرية والنظريات الإستراتيجية في تطبيق مبادئ الحرب وإعداد الدولة والشعب لخوض صراع مصيري مع قوه غاشمة تعيش نشوة نصرها على العرب في حرب حزيران 67, أمام جيش يعاني قلة العدد والعدة, تمكن رغم ذلك من توظيف مهاراته العسكرية ويترجمها عمليا في ساحة المعركة ليفاجأ العدو بفنون مبتكرة من الإبداع في استخدام القوة العسكرية التي تسلحت بالوطنية والمعنوية والإرادة قبل أن تتسلح بالطائرات والصواريخ.
ووفق المجالي جاءت معركة الكرامة لتمثل التقاء الإرادة السياسية مع الإرادة الشعبية في تسخير كل عناصر قوة الدولة لتحقيق المعجزات في ظروف محلية وإقليمية ودولية صعبة كانت جميعها تمثل عوامل ضاغطة على الدولة الأردنية وتمنح إسرائيل فرص اكبر لتحقيق أهدافها.
ويوضح بالقول: «توحدت القيادة مع الشعب واختارت خندق الجهاد لتذود عن كرامة الأرض الأردنية وكرامة الامه العربية فكانت ملحمة الرجولة والشرف التي صعقت قادة العدو, ليعترفوا بان الإرادة الأردنية سحقت إستراتيجية التفوق والغطرسة الإسرائيلية, لتقلب ما كانوا يعتبرونه نزهة إلى جحيم يدفعهم لاستجداء وقف إطلاق النار.
وحسب الباحث المجالي «اختارت إسرائيل في حساباتها العسكرية أقصر المحاور المؤدية إلى المناطق الحيوية في مسرح العمليات الأردني معتمدة على تفوقها العسكري لتفرض واقعا صعبا وجديدا على الدولة الأردنية في اقل وقت واقل خسائر ممكن أن تحقق لها أهدافها في إرغام الأردن على الإذعان لشروطها.
ويلفت إلى أن إسرائيل لم تكن تعلم بأن الأردنيين قد اختاروا النصر أو الشهادة, وأن الحسم الاستراتيجي لا تحكمه الجيوش الجرارة والأسلحة الحديثة فقط, بل تتفوق عليه الإرادة الوطنية التي نذرت نفسها أن يبقى هذه الوطن عزيزا وعصيا على كل من تسول له نفسه العبث في كرامته وسيادته.
ووفق الباحث المجالي «لقد جسدت معركة الكرامة في تفاصيلها الدقيقة ما يتميز به الأردنيين على الدوام من تحويل الصعاب والتحديات إلى فرص للنجاح, وأن التهديدات والتحديات لا تزيد الأردن قيادة وشعبا إلا تلاحما وإصرارا يمدهم بأسباب القوة التي تمكنهم من تجاوز كل ما تفرضه البيئة الدولية والإقليمية من تحديات.
ويلفت إلى أن الكرامة ليست فقط تاريخا بين السطور بل هي نقشا في الوجدان والقلوب يعود إليها الأردنيون كلما ضاقت عليهم الأمور, لتبقى نبراسا يشهد ما لهذه الدولة والقيادة والشعب من تاريخ يأبى إلا أن يكون كريما, أبيا, شامخا في ظروف العسر واليسر.