الأردن اليوم
غادة كامل الشيخ – رصيف22
“هذه المرة كانت غير” رحلة الشاعر الأردني أمجد ناصر، ذلك البدوي الذي يعشق الترحال التي هي صفة أصيلة في البدو، لكن هذه المرة بالفعل كانت رحلته “غير”، عندما انتهت يوم أمس جولته في العالم ورحل عنه.
انهزم ناصر في معركته التي عول على انتصاره عليها، عندما أخبره الأطباء في لندن، قبل خمسة شهور، أن رحلته في الحياة شارفت على الانتهاء، وليس للطب حيلة في السيطرة على الورم السرطاني في الدماغ، تلك المعركة التي أعلن عن خوضها بشراسة دفاعاً عن خطته في تأليف ديوان كان ينوي إعداده، ونكاية بالأطباء الذين حددوا له رقماً لما تبقى من عمره، وهو شخص يكره الأرقام.
أعلنها حرباً مفتوحة مع الموت أو “الشيء القاتم” الذي أخذ أمه وحبيبته الأولى، كما وصف في قصيدة له نشرها عبر صفحته في فيسبوك، لكنه انهزم أمامها مخلفاً وراءه هزيمة أخرى تضاف إلى إرثه، شاعر ومناضل وعربي في عالم يكره هذا الثالوث.
“أيها الشيء القاتم الذي أخذ أمي وحبيبتي الأولى
والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلى الجانب الآخر من التراب
ما أنت؟
ما مشكلتك معي؟”
تساءل ناصر يوماً ما، مهدداً الموت بنبرته الأردنية الخشنة وبروح الثأر قائلاً:
أصوات من الأردن: كي يظل الوطن حبيبنا… علينا أن نبتعد عنه
هل عشق شعراء العرب حقاً أم ابتكروا قصصهم لكسب تعاطفنا؟
ومن الشعر ما قتل: عن القصائد الملعونة في تاريخ الخلافة الإسلامية
“إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك
تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد
وجهاً لوجهٍ
لسوف ألقنك مواثيق الرجال
كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة
أرني وجهك قبل أن تنتضي قناعك الذي تسمّيه عقاباً إلهياً
فأنا لي آلهتي أيضاً لكني لن أدعوها لنزال الوجوه السافرة
إن كان لك دين عندي
أو مشكلة شخصية كأن أكون خطفت هيلين الشقراء من حضنك
ومرغت شرفك في الوحل
مع أني لا أذكر شيئاً كهذا
لا تسترد دينك من الذين يمرون في هذه الدنيا
كما تمر أنفاس الرعاة في قصب الناي”.
مات ناصر ولم يأخذ ثأره من الموت، أو ذلك الشيء القاتم بحسب وصفه، مات بعد 64 عاماً من الكفاح في حياة جعلت منه رغماً عنها شاعراً وكاتباً، وقبل كل ذلك إنساناً.
صارع مرض السرطان بكل ما أوتي به من عناد البدوي، لتنتهي رحلته التي بدأت من محافظة المفرق في الأردن إلى برية في عالم الغيب.
لم يتصالح مع فكرة الاغتراب
كان ناصر أحد أبرز رواد الفضاء الشعري العربي، تلك القصائد التي شكّلت بروحه مساحة تنعتق فيها اللغة، وتتأرق بهواجس الذات والعالم، التحق بالثورة الفلسطينية في لبنان واستقر مقامه الأخير في لندن، لكنه لم يتصالح مع فكرة الاغتراب، ليعود على جناحين من ضوء ويكتب قصيدته الأخيرة في البلاد التي أنجبت قصائده.
غادر ناصر كريماً… وكما يقول المثل البدوي الأردني: “يا رب صار عندك ضيف.. أكرمه!”.
وُلد أمجد ناصر في مدينة الرمثا شمال الأردن عام 1955، ودرس العلوم السياسية في “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”، وانتقل مع منظمة التحرير الفلسطينية للعمل في صحافتها في بيروت وقبرص، وأسهم بتأسيس صحيفة “القدس العربي” عام 1987 في لندن التي استقر فيها، إذ تسلم إدارة التحرير وأشرف على القسم الثقافي فيها منذ 1989، لينقل الصحافة الثقافية إلى مستوى جديد في الصحافة العربية، ويمنحها من روح الشاعر، ما جعل صفحات “القدس الثقافي” واحدة من الصفحات التي يترقبها المثقفون والقراء العرب يومياً.
كما حاز جائزة الدولة التقديرية في حقل الآداب، ووسام الإبداع والثقافة والفنون الذي منحه إياه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، تقديراً لدوره بإغناء الثقافة العربية، وتحديداً الأردنية والفلسطينية.
خلال مسيرته؛ أصدر مجموعات شعرية عديدة، بينها: “مملكة آدم”، “مديح لمقهى آخر”، و”بيروت” و”منذ جلعاد كان يصعد الجبل”، و”سُرَّ من رآك”، و”حياة كسرد متقطع”، “رعاة العزلة”، “وصول الغرباء”، “أثر العابر – مختارات شعرية”، وفي أدب الرحلات، أصدر “خبط الأجنحة”، “مرتقى الأنفاس”، “رواية في بلاد ماركيز”، وفي الرواية أصدر “حيث لا تسقط الأمطار” و”هنا الوردة”.
مات أمجد ناصر ولم يأخذ ثأره من الموت، أو ذلك الشيء القاتم بحسب وصفه، مات بعد 64 عاماً من الكفاح في حياة جعلت منه رغماً عنها شاعراً وكاتباً، وقبل كل ذلك إنساناً.
يختلفون أكثر مما يتفقون في الوسط الثقافي والأدبي الأردني، لكن سرعان ما توحد بكاؤهم مساء الأربعاء، الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر، فور إعلان خبر وفاة الشاعر ناصر الذي تختلف وجهات النظر عليه لكنها تتفق على حبه.
اتفقوا على حزن رحيل ناصر
يختلفون أكثر مما يتفقون في الوسط الثقافي والأدبي الأردني، لكن سرعان ما توحد بكاؤهم مساء أمس الأربعاء، الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر، فور إعلان خبر وفاة الشاعر ناصر الذي تختلف وجهات النظر عليه لكنها تتفق على حبه.
الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية والصحافية سابقاً، جمانة غنيمات، لم تكترث لردود الأفعال التي كان من الممكن أن تلحقها في حال نشرت تغريدة على حسابها في توتير بعد غياب، وبعفويتها وعاطفتها المعهودة نشرت تغريدة على حسابها ذكرت فيها: “ببالغ الحزن وعظيم الأسى أنعى الصديق الأديب أمجد ناصر، الذي ارتقت روحه إلى العلياء، بعدما أثرى حياتنا بالحب والحياة والحرية والجمال.. سنفتقدك كثيراً، لروحك المجد والخلود يا أمجد…”
ومن يقرأ نعي وزير الثقافة والشباب الأردني، محمد أبو رمان، يلمس ما بين سطوره أنه لم ينع لأنه مجبور كموقع مسؤوليته، بل لأن ماضياً كان يجمعه مع ناصر عندما كان صديقه وزميله أيضاً، باعتباره كاتباً وصحفياً سابقاً.
وقال أبو رمان في النعي الذي نشره مساء رحيل الشاعر: “إن أمجد ناصر سيبقى في ذاكرة الأردنيين، وفي ذاكرة عمان التي انطلقت منها كلماته الأولى، وكتب فيها ديوانه الأول (مديح لمقهى آخر)، والذي تحدث فيه عن شوارع ومقاهي عمان”.
واستذكر تجربة أمجد الشعرية كأحد أبرز رواد الحداثة الشعرية، وقصيدة النثر، ونتاجه الإبداعي، ومساهمته كشاعر، ودوره الكبير في إثراء المشهد الشعري العربي عبر مؤلفاته الشعرية، ومشاركاته المتعددة في المهرجانات العربية والدولية، إذ كان أول شاعر عربي يقرأ في الأمسية الافتتاحية لمهرجان لندن العالمي للشعر، ومشاركته في لجان تحكيم الجوائز العربية والدولية في الأدب والصحافة.
الكاتبة والشاعرة “الجدلية” زليخة أبو ريشة، والتي قلما تتفق مع أي طرف من الوسط الأدبي، إلّا أنها اتفقت مساء الأربعاء مع الجميع في ألمها على رحيل ناصر، حيث نشرت على صفحتها على فيسبوك: “برغم جميع المقدمات لا أصدّق… فالوجود غير مكتمل من دونك… وكذلك الحب والشعر… ناضلتَ بما يكفي ذاك المرض اللعين، حتى أنهك جسدك… وظلت روحك عصيةً على الخضوع. كل ما نقوله فيك محض تهويمٍ في الأسى والمرارة… الأسى والمرارة… ذاك إناء زجاج وقع من يد الحياة ونحن نلملم كسراته، ولا نعلم أننا من زجاج أيضاَ… وداعاً يا صديقي… وإلى اللقاء…”.
فيما كتب الكاتب وعضو رابطة الكتاب الأردنيين، محمد المشايخ، عضو رابطة الكتاب الأردنيين ومديرها الإداري الأسبق خلفاً للمرحومين حسين حسنين وميشيل النمري: “لولا مغادرة الشاعر أمجد ناصر، لولا مغادرته عمان إلى بيروت عام 1978ليلتحق بالمقاومة… لما كنت عملت في الرابطة… إذ إنني حاولت فقط أن أملأ الشاغر الذي حدث بسبب سفره منذ ذلك العام.. أحرّ التعازي وأصدق مشاعر المواساة لمحبي أمجد ولأصدقائه في العالم”.
لم يمر وقتاً طويلاً عما قاله ناصر: “ليس لدي أعداء شخصيون”… فعدوه الذي هزمه كان الموت الذي تعرّف عليه قبل أن يسرق روحه، وتحديداً عندما جاء عليه ذلك النجم الذي لا يزف الخبر الجيد بحسب وصفه، ومن وقته أعلنها حرباً خلفته مهزوماً. هو الذي قال أيضاً: “الرحلة التي بدأت برقصة تحت نجم… لم تبلغ تلال الوعد السبعة بعد!”.
غادر الشاعر أمجد ناصر البدوي عاشق الترحال رحلة الحياة مخلفاً وراءه إرثاً يضاف على رفوف ميراث الشعراء الأنقياء الذين كانوا أكرم من الحياة على هذه الحياة، غادر ناصر كريماً… وكما يقول المثل البدوي الأردني: “يا رب صار عندك ضيف.. أكرمه!”.