الأردن اليوم _ رمزي الغزوي
الزيت والزعتر كانا ملاذي الطيب. فلم أكن أحبُّ الخبيزةَ التي تطبخها أمي مراراً في الشتاء. وبقيت صامدا على صلابة موقفي، حتى أسرتني زهرتها البديعة ذات الربيع. من ذلك الوقت قرّرت أن أحبها.
هي شهوة الأغنياء. ولكنها نبات الفقراء وملاذهم، وربيعُ بطونهم. فهي تنبتُ حين يكونُ كلُّ شيء قليلاً؛ فتجيء لتسند حياتهم، وتقيم أودهم. وما زالوا يمتدحونها في بواكير موسمها: الراية البيضا للخبيزة، والعشبة البدرية. أي المجدُ لكلِّ من يأتي مبكراً من الأعشاب.
رمزُ الخير والوفرة ولذلك قولوا: (خُبيزة ولبن يكثر، افشر يا الغلا افشر). أي أن نزولها مع موسم إدرار الحليب؛ سيجعل الناس بعيدين عن لهيب أسعار السوق. ويبقى أن من الناس من يركضُ ويركضُ مهرولا خلف رغيف هارب، والعشاء خبيزة في أحسن أحواله.
تبدأ بظهورها التدريجي مع أوّلَ مطرٍ تجود به السماء. وستجدها شامخة عنفوانية قرب (المراح)، أي مرابض الأغنام القديمة، حيث تكون الأرض مخصّبة بزبلها. ولكنها في هذا المكان تحديداً تكون سريعة الرحيل مثل العمر. ولهذا كان أهلنا يصفون الحياة قائلين: (العمر ولّى وراحِ، مثل عشب المراحِ).
لا يقنعني قولُ من يرون أنّها أخذت اسمها من الخبز، وكأنها كانت بديلاً عنه. فمن ذا الذي يأكلها بدونه؟. ولكن يعجبني أنها نالت الاسم من رغيف خبز الطابون، لأن ورقها بوجهين مختلفين كوجهه: وجهٌ مُقمر على الرّضف (الحجارة)، والآخر أملس.
الخبيزة مهرجان ما زالت النسوة تسعى إليه. فثمة عشق جواني بينهما. حتى مع كلِّ ما وصلنا إليه من التقدم. وكان تبقيل الخبيزة مناسبةً كبرى للحديث. ولهذا جاء المثل قاطعا كلَّ قول: من نّقلت ما بَقلت. أي من تتحرّكُ كثيراً، لن تعودَ بشيءٍ إلى بيتها في المساء. فالتبقيل يحتاج إلى الربوض في مكان واحد. ولهذا يجيء القول صاعقاً على لسان زوجها: عكوب ما عكَّبتْ، وخبيزة ما بَقَّلتْ، بس ريتها روّحتْ قبل ما الشمس غابت.
لا تحتملُ النارَ كثيراً، كي تحافظ على لونها البهي. ومن الناس من لا يأكلها بعروقها، بل يأكل ورقها فقط. والحوس أشهر طبخاتها إذ تقلى في طنجرة مغطاة بزيت الزيتون والبصل، وتقدم مع الليمون. وهناك طبق كان يعدُّ أهلنا قديما يسمى المغمومة، إذ تطبخ مع البرغل الناعم، والبحبوثة، حين تطبخ مع مفتول الطحين. وثمة من صار يأكلها مع الرز.
كمياتها تتناقصُ بالطبخ بشكل عجيب. فقد يكون لديك كوم كبير منها، ولا تنال إلا صحناً أو صحنين. ولهذا قال المثل ناصحة الزوجة: لا توري جوزك طبيخ الخُضر، ولا لحم البَقر. فالخُضار ومنها الخُبيزة والسبانخ والحميض، تنكَمِشَ بالطبخ كلحم البقر. وكل موسم وأنتم بخير.الدستور