عالم بين ادارتين .. ترامب .. بايدن

بين رجلين وجد العالم نفسه بشكل دراماتيكي مضطراً للتعايش لأقلمة ذاته حسب معطى كل منهما ، فالآفل دونالد ترامب  قدم من عالم يض بالمال والنساء والعقار وتلفزيون الواقع ، يحتقر السياسة والسياسيين وتمثل واشنطن بالنسبة له مستنقع لذلك الفساد ، وهو الذي جعل فيأولوية أهدافه محاربة هذه البؤرة والتصدي لها وهي في النهاية استطاعت ان تهزمه وتبعده عن المسرح ، أما القادم جوزيف بايدن ، فهو إبنصميم لتلك المؤسسة السياسية ، فقد بداء الحياة السياسية كأصغر سيناتور وأصبح  الآن اكبر رئيس للولايات المتحدة وحاصل على اعلىرقم تصويتي في تاريخ امريكا ، وما بين الحدثين كان في صميم السياسة وجزء اصيل من نخبها ، و  جزء من البيروقراطية العتيدة فيواشنطن ، وبالتالي فبمقدار ما كان سلفه متمرداً وعاصفاً في قراراته بل ومستهجنناً ، فليس من المتوقع ان ان يكون بايدن  انقلابياً وذوتوجهات راديكالية ، وإن كان مدعوماً من اليسار التقدمي او المتطرف في الحزب الديمقراطي ، الذي بداء يطالب بثمن هذا الدعم ، لكن ليسمن المتوقع من رئيس قادم من يمين الوسط ان ينحني لهذا التيار سوى ببعض المكاسب المحسوبة بدقة ،،اذاً فمن المتوقع ان يعيد الرئيسالمنتخب عجلة السياسة الى مسار واشنطن التقليدي .

لكن حالة التشظي  الامريكية  تطرح على   الرئيس المنتخب ملفات معقدة فهل يستطيع تجاوز مطباتها ؟ فأول مواجهاته ستكون مع جائحةكورونا التي تفتك بدون هوادة بالمواطنين  وتحتل فيها البلد المركز الاول على مستوى الاصابات والوفيات ، وثاني موجهاته مع حالة الانقسامالعميق الذي تعيشه الامة الامريكية ، والتي عبرت عن نفسها بهذه الانتخابات ، فمن صوت لترامب لم يصوت فقط للحزب الجمهوري بللترامب كممثل لفئة من المجتمع ترفض النخبة السياسية الحالية وتريد ان تقتلعها من جذورها ، وهؤلاء سيبقوا على ولائهم لدونالد ترامب ،لذلك هو يجهزهم منذ الآن من خلال اصراره على ان الانتخابات مزورة وأنه هو الفائز لتعزيز جذور الشك في الرئيس المنتخب وبالتاليالمؤسسة السياسية المنتجة له وهو بذلك يضع الارضية المواتية لصراع يستمر لأربع سنوات قادمة يخوض فيها الانتخابات تحت مسمىاستعادة شرعيته التي خسرها بسبب التزوير ، اما مصوتوا بايدين فهم ايضاً ليسوا في جلّهم مؤيدين للحزب الديمقراطي بل في جزء مهممنهم رافضين لظاهرة ترامب الخارج عن لباقة المؤسسة السياسية الامريكية ، وكلا الطرفين يرى في الآخر عدواً وليس منافساً سياسياً وطبعاًهذه كارثة تحل في اهم بلد ديمقراطي ، فهل يستطيع بايدن رأبها ؟ هذا مرهون بالمستقبل ، ويواجه الرئيس ايضاً تحدي الاقتصاد المنكمش ،وتراجع دور امريكا كأمه تهيمن على العالم .

ليس هذا فحسب فأمام بايدن تحديات على مدار الكرة الارضية ، فالهيمنة الامريكية المطلقة على العالم في طريقها للتراجع  ، والاقتصادالامريكي الاقوى لا يبدوا انه سيحافظ على تلك المكانة طويلاً ، وحتى القوة الامريكية المهيمنة مرشحة لأن تتراجع ولو قليلاً لصالح قوىصاعدة اخرى ، يظاف تراجع مقدرة امريكا لأن تكون الطرف المهيمن في حل الصراعات الدولية ،كما ان  مكانة امريكا كنموذج يحتذى كأمةملهمة في مجال الحريات وحقوق الانسان بات محل جدل كبير ، كل تلك تغيرات وتحديات سيواجهها بايدن ، فهل يستطيع تغيير قراراتترامب وإعادة بعض المكانة لأمريكا كدولة متزنة ؟ لا يكفي طرح السؤال بل لابد من المرور على تلك الملفات وتفحص امكانية احداث اي تغييرفيها من قبل الادارة الجديدة .

لنبداء من المنظمات الدولية التي انسحب منها دونالد ترامب ، فهذه قرارات سهلة يمكن العودة عنها، اتفاقية باريس للمناخ ، منظمة الصحةالعالمية بشروط عدم الانحياز ، الاونروا ، قد تتأخر العودة لليونسكو بسبب ارتباط ذلك الخروج بإنتقاداتها المستمرة لإسرائيل ، اماالاستحقاقات المعقدة فتبداء من الصين القوة الرئيسية التي تهدد التفوق الامريكي سواء الاقتصادي او العسكري  ، لكن المعضلة هنا انجوزيف بايدن لا يزال ينظر الى ان روسيا هي التحدي الاستراتيجي لأمريكا ، وهو بقناعته هذه قد يناقض الاستراتيجية الامريكية التيأتبعت ايام نيكسون حينما كان الاتحاد السوفيتي في أوج قوته ففي حينها ركزت الجهود الامريكية على احتواء الصين كي لا تكون في صفالاتحاد السوفيتي في مواجهة امريكا والآن الصين في ذروة صعودها يحاول العقل الاستراتيجي الامريكي تحييد روسيا كي لا تكون شريكاًللصين في مواجهة الولايات المتحدة ، فهل تنجح المؤسسة الامنية  بإقناع بايدن بتغيير أولوياته ؟ ، حتى الان التعيينات  لطاقمه لا ترجح ذلك  .

لكن يبدو ان الملفات العالقة مع الصين ستفرض نفسها على اي رئيس امريكي مهما كان توجهه فالعجز التجاري لصالح الصين يؤدي بشكليومي الى تسريح ألآف العمال ، فترامب الذي آمن بضرورة تصحيح هذا الخلل من خلال طرح فكرة امريكا اولاً ، ووضع  رسوم وجمارك علىالمنتج الصيني وتحصل من وراء ذلك عَلى مكاسب مهمة ، وكانت قناعة ترامب الدائمة ان ذلك الخلل يضر بالاقتصاد وبالتالي لا بد منإجراءات حاسمة ، اما بايدن فقناعته تركز  على ان تلك الاجراءات تضر بالمستهلك فهل يذهب الى إلغائها تحت بند حرية التجارة الذي يتبناه، او يبقيه كما هو وبحسب ما يقول دونالد ترامب بعدالة التجارة ؟ لا زال الامر في اطار التخمينات ، وأمام  بايدن المعضلة الامنية لبحرالصين وجنوب شرق آسيا والتي حُددت معالمها سابقاً بضرورة الوجود الامريكي كضامن لجميع الامم في هذه المنطقة المعقدة والمتخمةبالقوى الصاعدة والطامحة ، حيث يمر من بحر الصين ٦٠٪؜ من حجم التجارة الدولية ، فالبحر الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة طوال عقودما بعد الحرب العالمية الثانية بات الان معرضاً للأختراق من قبل قوة الصين البحرية والصاروخية الصاعدة ، فهل تغامر الادارة بتعريضحلفائها للخطر ، فحرية الملاحة اصبحت ليست رهناً بقوة واحدة بل يتزاحم فيها شريك ومنافس آخر ، فمضيق تايون ، وتايوان بذاتها ،والديمقراطية في هونج كونغ كل تلك ستصبح  تحت رحمة الصين الصاعدة بقوة ، فهل تستثمر الولايات المتحدة قضايا حقوق الانسان فيالايغور وتايوان وهونج كونج وتستخدمها  كسلاح تقيم بواسطته تحالفاً دولياً من اروبا والهند واليابان وكوريا الجنوبية لمواجهة هذا التغولالصيني وإن كان في ذلك شك فهي فكرة واردة .

اما التحدي الايراني فقد تركه دونالد ترامب على مستوى كبير من التعقيد وزادته اسرائيل تعقيداً بإغتيال عالم نووي ايراني لكي تضعالعراقيل في وجهه الادارة القادمة بخلق جو من التوتر لا يمكن تجاوزه الى طاولة حوار بسهولة ، لكن هل صحيح ان العودة الى اتفاق ٢٠١٥امر سهل ؟، ليس الامر بهذه السهولة فدون ذلك قوى سياسية في الكونغرس ستعيق هكذا توجه ، يضاف الى ذلك ان مجموعة العقوباتتكونت على طبقات من الصعب إلغائها بسهولة إلا بإتفاق شامل ، يتضمن البرنامج الصاروخي الايراني ودور ايران التوسعي في المنطقةوهذا فعلاً ما اعلنته ادارة بايدن منذ ايامها الاولى ، بالتالي فإن العودة للإتفاق السابق أمر شبه مستحيل ، وحتى الاتفاق الجديد ستشتركفيه قوى اقليمية اقصيت في المرة السابقة من حلبات النقاش مثل السعودية وربما الامارات .

كيف سيتعامل بايدن مع السعودية ودوّل الخليج ؟ رغم كل ما يُقال عن موقف بايدن من هذه الدول ، لكن الاستراتيجة الامريكية ستبقيها دوماًفي مكانة مهمة بالنسبة للولايات المتحدة ، كما ان لديها الذكاء والمقدرة على التعامل مع اي رئيس امريكي مهما كانت توجهاته من خلالجماعات ضغط في عمق المؤسسة السياسية الامريكية ، سيركز بايدن   على حقوق الانسات والحريات للضغط عليها  وهذا الامر سينطبقعلى مصر ايضاً ، وربما  يذهب بايدن بشكل  جادة لإنها حرب اليمن خصوصاً بعد ان علت الاصوات في واشنطن على ضرورة وضع حدلها ،

الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية تراجعت من حيث المكانة والاهمية منذ عهد أوباما واستمر كذلك في عهد ترامب ، فالنفط اصبح متوفراًفي امريكا وأمن اسرائيل في احسن اوقاته ، وهما العنصرين الرئيسيين الذين شدا امريكا للمنطقة دائماً ، يضاف ان الرغبة الامريكةتضألت في الانخراط في صراعات المنطقة ، مما يؤشر على انتهاء الحروب الامريكية هنا ، اما بالنسبة للقضية الفلسطينية فترامب اراد إنهاءالملف برمته وفق التصور الاسرائيلي ، بالضغط على جميع الاطراف للقبول  بما عُرف بصفقة القرن او خسارة الولايات المتحدة كحليف ،بحيث دفعت هذه السياسة اطراف عربية لبدء مسيرة التطبيع مع كيان الاحتلال ، وبالتالي بدء مرحلة جعل اسرائيل طبيعية في المنطقة ،وتحويل الصراع العربي الاسرائيلي الى قضية محلية داخلية اسرائيلية فلسطينية ، أما بايدن فيؤمن بفكرة ادارة الصراع وهي السياسةالامريكيةالقديمة وربما يعيد  الدعم للسلطة الوطنية ويعيد ممثلية منظمة التحرير وربما الدعم للأونروا ، ويعيد منظومة المحادثات  الىمسارها السابق ، بدون الوصول الى حلول ، وفِي الاثناء تستمر اسرائيل في بناء المستوطنات وقضم الارض ، ويستمر ايضاً قطار التطبيعبين اسرائيل والدول العربية ، وتستمر القضية بالتآكل رويداً رويداً مالم يظهر متغير يقلب الطاولة على الجميع ليس اقله انتفاضة سلميةجديدة تغير المعادلة من جديد .

اما بالنسبة لتركيا فمتفق على انها دولة مثيرة للمتاعب بالنسبة للساسة في واشنطن ، وبايدن بالذات يتبنى وجهة نظر سلبية تجاه اردوغان ،مما قد يدفعه الى تفعيل التعاون مع الاتحاد الاوروبي لفرض عقوبات على تركيا ، وقد يلجاء ايضاً الى وضع شروط على بقاء تركيا في حلفشمال الاطلسي وهذا مرهون بمدى قناعة جو بايدن بأن الحلف ما زال يحضى بأهميته السابقة ، وفي هذا السياق فقد يعيد فكرة الدعمالامريكي للأكراد لكن دون الوصول بهم للحصول على كيان مستقل في سوريا ، التي سيحاول ايضاً التركيز فيها على وضع حدّ للتدخلالتركي

بقلم الدكتور منذر الحوارات