كتب الدكتور ماجد الخواجا
ستكون هذه المقالة بمثابة توثيق وتأصيل منهجي تاريخي لما يدعى بتطوير التعليم والتدريب المهني في الأردن.
بدأ التعليم المهني في الأردن على هيئة مسار من مسارات ما بعد المرحلة الإلزامية حيث احتل طوال عقود المرتبة الأخيرة ضمن خيارات الطالب الأكاديمية، وعندما بدأت وزارة التربية في إجبار الطلبة ذوي التحصيل المتدني إلى تحويلهم لمسار التعليم الثانوي التطبيقي ، بدأت تظهر مشكلة تربوية تدعى بالتسرب المدرسي، ومع زيادة أعداد الطلبة المتسربين بسبب عدم التحاقهم في المسار الأكاديمي أي العلمي أو الأدبي وعدم رغبة أهاليهم في الحاقهم بالمسارات المهنية مثل المسار الصناعي والزراعي والفندقي والتمريضي والاقتصاد المنزلي والشرعي والتجاري والتطبيقي ( التلمذة المهنية).
فجاء التفكير بإنشاء مؤسسة حكومية تعنى باحتواء الطلبة ذوي التحصيل المتدني أو أولئك الذين تسربوا من المدارس وليس لديهم أية حرفة، حيث ظهرت مؤسسة التدريب المهني عام 1976 ليناط بها مهمة تدريب الأفراد على الحرف الصناعية بشكل رئيسي ضمن برامج ما تدعى بالتلمذة المهنية. وفعلا قامت المؤسسة بوضع برامج تدريبية ضمن ثلاث مستويات أو تصنيفات شملت مستوى الثانوي التطبيقي / التلمذة المهنية ومدته 3 سنوات ، ونظام التدريب المتوسط / السنة الواحدة، وبرامج الدورات القصيرة. وبدأت المؤسسة تدريبها بتخريج أول فوج بعدد (20 خريجا) وكان التدريب في بداياته على حرف محدودة وفي أماكن العمل حيث لم توجد مراكز / معاهد للتدريب آنذاك.. جاء الكادر التدريبي من سوق العمل بشكل واضح، فكان المدربون في غالبيتهم ممن هم بالأصل يعملون بنفس المجال المهني، أما المهندسون فهم أيضا جاءوا من خريجي الدول الشرقية الذين يحملون الثانوي الصناعي والهندسة التطبيقية.
وبدأت المؤسسة تتطور وتنمو فأصبح لديها عديد من المراكز والمشاغل التدريبية ، وبدأ سوق العمل يتفاعل بشكل نشط وإيجابي مع المؤسسة، وكان القبول كبيرا لفكرة التدريب المزدوج الذي يزاوج بين التدريب في المشغل داخل المركز والتدريب لدى صاحب العمل.
لم يكن اختيار برامج التلمذة المهنية مجرد اجتهاد أو فزعة، بل جاء من تجربة عميقة ممتدة لعقود طويلة في تنفيذه في الدول المتقدمة ومنها ألمانيا، لكن اختلفت آليات التطبيق من حيث أنه في ألمانيا يتم التدريب للقطاع الصناعي والزراعي والخدماتي وحسب متطلبات القطاع أو صاحب العمل، والذي يشترك في انتقاء الطلبة ووضع معايير القبول والبرامج التدريبية وكيفية تنفيذها وفي تقييم أداء الطلبة، ومنح مكافآت شهرية طيلة فترة التدريب للطلبة والتي تتحول إلى رواتب في السنة الثالثة من التدريب. أي أن الطالب من لحظة التحاقه وإلى أن يتخرج يكون تابعا ومنتسبا لإحدى الجهات العاملة، ويكون دور كبير في الإشراف والمتابعة والتطوير لغرف الصناعة والتجارة وغيرها من اتحادات مهنية.
فالتلمذة المهنية هو برنامج طويل المدة ومزاوج للتدريب المؤسسي والعملي مع شراكة حقيقية ملموسة للقطاعات المعنية.
استمرت مؤسسة التدريب في تقديم هذه البرامج لسنين طويلة، تغيرت خلالها النظرة السلبية لعالم المهن، وأصبح الالتحاق بالتدريب خيارا ذاتيا لكثير من الملتحقين بدلالة أن غالبية من يلتحقون في التدريب هم ممن لم يتم تحويلهم من مدارس وزارة التربية وإنما بناء على رغبتهم الشخصية، تشير الدراسات والأرقام لدى مؤسسة التدريب المهني أن ما نسبته 30% فقط من الطلبة المحولين من وزارة التربية يلتحقون بالتدريب فعليا.
عبر تلك السنوات كان الكادر التدريبي محترفا ومهنيا وكان المهندسون يمارسون أدوارا فنية حقيقية كضباط تدريب ويعملون على تطوير التدريب داخل مشاغلهم، ولم تكن النظرة الوظيفية ذات طابع إداري يسعى للمواقع الإدارية، فيما كان المتدربون ينصهرون في العملية التدريبية وكانت نسب التشغيل لهم في مجالاتهم المهنية لا تقل عن 80% من الخريجين، وكثيرا منهم يواصل العمل لدى صاحب العمل ذاته.
لكن : عانت المؤسسة من قضية تحويل الطلبة ضعيفي وربما رديئي التحصيل وحتى الراسبين في التربية، وهؤلاء شكلوا جزءا من مدخلات رديئة المستوى المعرفي والمهاري والسلوكي، والمفارقة أن فرضية مدخل رديء سينتج عنه مخرج رديء تم دحضها في التدريب المهني حيث المدخلات الرديئة كانت بعد التدريب تصير مخرجات ذات جودة معقولة ومناسبة.
كما أن المؤسسة عانت من عدم وجود أطر واضحة لمفهوم صاحب العمل، حيث كانت العلاقة عفوية وتعتمد على العلاقة الشخصية بين المدرب وصاحب العمل، وكان سوق العمل غير محدد الملامح، وغالبية من تتعامل معهم المؤسسة كأصحاب عمل، هم عبارة عن محلات لا يكون فيها إلا صاحبها.
وكان هناك استغلال للطلبة أثناء العمل لدى صاحب العمل سواء في قيمة المكافأة أو ساعات الدوام أو اتباع وسائل الوقاية والسلامة المهنية أو حتى في الممارسات المسلكية المهنية.
لهذا يمكن أن نطلق على مؤسسة التدريب المهني بأنها مؤسسة الفرصة الأخيرة ، مؤسسة السلم المجتمعي، خاصة وأن كثيرا ممن يلتحقون بها لا تكون لديهم فرصا أخرى في الحياة.
لقد تطورت مؤسسة التدريب المهني سواء في عدد معاهدها ومشاغلها التدريبية ، وفي عدد الملتحقين بها، فأصبح يلتحق ببرامجها قرابة 10000 طالب سنويا، وتتعامل مع 25000 شخص تقدم له خدمة مهنية سنويا.
قامت المؤسسة منذ نشأتها وحتى الآن بتخريج 400 ألف شخص في مختلف المجالات المهنية، وكانت كلفة الطالب السنوية تصل إلى حوالي 1000 دينار لا يدفع الطلبة منها شيئا. وهذه الكلف عبارة عن معدل النفقات الرأسمالية والثابتة والمتكررة على شكل مرافق وتسهيلات وتجهيزات ورواتب ومصاريف وغيرها. والتي يتم قسمتها على عدد الطلبة الملتحقين في معاهد المؤسسة سنويا.
كانت المعضلة لدى المؤسسة تتمثل في تركز الأعداد للملتحقين في تخصصات محددة وفي العزوف عن الالتحاق بتخصصات أخرى، مما تسبب في تشوه منحنى الطلب والعرض في سوق العمل، حيث أصبحت قطاعات تعاني من عدم توفر العمالة المدربة لتشغيلها، فيما كان هناك فائضا كبيرا في مجالات مهنية أخرى.
وتبدت المعاناة بشكل أكبر في النوع الاجتماعي، حيث التركز للإناث في مجالين لا ثالث لهما وأعني مجاليالخياطة والتجميل، ثم لحقهما تخصص الحاسوب وتفرعاته. والمفارقة أن هناك طلب متزايد على التشغيل في مجال الخياطة بالرغم من الإقبال الكبير للإناث عليه، وهذا يعود إلى طبيعة البيئة المهنية في المصانع وخطوط الإنتاج لديها، وإلى تدني الرواتب فيها، والأهم عدم رغبة الأهل في تشغيل بناتهم في هذه المصانع.
أيضا عانت المؤسسة من حيث البعد الجغرافي، حيث أن منطقة الجنوب كمثال وبالرغم من توفير معاهد في كل محافظات الجنوب، إلا أن المؤسسة واجهت مشكلة وأزمة في تغيير النظرة نحو عالم المهن، ومن ثم في البحث عن فرص التشغيل المحدودة جدا في تلك المناطق.
لغاية عام 2001 كانت المؤسسة تمارس أدوارها بشكل مريح وبصلاحيات كبيرة، وتعمل على تطوير أدواتها بما يتماشى مع التغيرات المحلية والعالمية. إلى أن جاءت الأجندة الوطنية كمخرج لاجتماعات اللجنة الوطنية التي تم تكليفها لوضع تصورات ورؤى للأردن القادم، حيث ورد في الأجندة الوطنية ضرورة تغيير الصورة النمطية لمؤسسة التدريب المهني، وتغيير الاتجاهات المجتمعية نحو عالم المهن، وضرورة إشراك القطاع الخاص، وأن يصبح التدريب حسب متطلبات سوق العمل.
كانت المؤسسة تؤدي الدور المطلوب منها بحرفية واقتدار وتمثل ذلك باستيعابها لفئة الطلبة ذوي التحصيل المتدني والراسبين والمتسربين من مدارس التربية والتعليم، وهي فئة ليس من فرص أمامها غير التدريب المهني أو الشارع بالمفهوم العام.
ومع زيادة أعداد الخريجين من الجامعات ومع قلة فرص العمل المتاحة، ومع تدخل مباشر من طرف ديوان الخدمة المدنية في التعيين للموظفين في المؤسسة، ومع توصيات الأجندة الوطنية، بدأ التدخل والانتهاك لكافة أنشطة المؤسسة، وبدأ يلاحظ شيوع مفهوم الوظيفة والبعد الإداري أكثر من مفهوم التدريب والبعد الفني، وأصبحنا نلمس التهافت على المواقع والشواغر، وأصبح المدرب في كثير من الأحيان مجرد موظف وجد فرصة عمل، أما المهندسين فقد تغيرت اهتماماتهم واتجاهاتهم للإدارة والشواغر فيها. وهنا بدأ الانحدار الفعلي لمؤسسة التدريب المهني.
ومع بدء الجهات الدولية بالدخول بشراكات مع الحكومة الأردنية في مجال التدريب ، ومنها الجانب الكندي والألماني والياباني والكوري والاتحاد الأوروبي والأمريكي والصيني والسنغافوري وغيرها من الدول التي انهالت علينا بالمشاريع والمقترحات عبر قناة وزارة التخطيط ، وأصبح الإهتمام والأولويات لما تدعى بمكملات ومحسنات الجودة والبيئة التدريبية ، وأصبح الكادر التدريبي غير قادر على التعامل مع المبادرات التي تنهال تباعا عليه تحت مسميات المهارات الاستخدامية أو الدورات المتقدمة. وصارت جوازات السفر تحمل في الجيوب خاصة للمحظيين من الواجهة الإدارية في المؤسسة حيث ما أن يعود من اليابان إلا وينطلق إلى إيطاليا وهكذا.
نعم لقد تضخمت أنشطة وعلاقات المؤسسة التي استحدثت إدارة خاصة للعلاقات الدولية حتى شاهددنا ذات مرة اصدار كتب تكليف للجان مشتركة بين المؤسسة وأكثر من 25 دولة عربية وأجنبية.
وبدأ شيوع مسمى ضباط الارتباط بين هذه المنظمة الدولية وتلك، وأصبح بعض الأشخاص ينادون باسم الدولة التي تتعاون مع المؤسسة ، وأصبح تبادل السفر سمة واضحة بين المستفيدين من العلاقات التدريبية مع الدول المختلفة. أي أنه يتم سفري معك مقابل سفرك معي.
ولغايات شخصية ومنافع آنية، كان يتم خداع تلك الجهات المانحة بتوريطها في توفير التجهيزات والبنى التحتية لمشاغل ومرافق ومعدات دون وجود متدربين فعليا في تلك المناطق.
وبدأت تسمع عن مفهوم ( تزبيط التقرير) أي كتابة تقارير بأرقام ووقائع غير حقيقية من أجل تقديمها للمانحين كي تستمر المنح والسفرات والمياومات. ولكي تقوم وزارة التخطيط بإغلاق ملف المنحة حسب الأصول المتعارف عليها.
لقد قامت تلك الجهات المانحة بتقديم التجهيزات والمواد التدريبية والبرامج المهنية حتى أصبح لدينا المعهد الأردني الكوري، المعهد الأردني السنغافوري، معهد الصناعات المعدنية، معهد الصناعات الكيماوية، إضافة لإقامة مشاغل مهنية بالكامل مثل مشاغل الحاسوب المتقدمة ومشاغل التدريب على السلامة والصحة المهنية ، والمساهمة في إعداد المناهج والبرامج المهنية المتخصصة…. يتبع في الحلقة القادمة.
Majdmajed65@yahoo.com