اقترب العالم من شهره الرابع منذ بدء أزمة وباء كورونا المستجد، وقارب بلدنا شهره الثاني منها منذ تسجيل أول إصابة، ورغم أن الأزمة من نوع مختلف نسبيا مقارنة بأزمات العصور الحديثة، لكنها ليست أمرا لم تعرف الإنسانية مثيلا له، ولا هي شيء وافد من خارج هذا العالم.
وهي بالتأكيد ليست أول ولا أسوأ الأزمات التي يمر بها الأردن، وإن كنا نرجو أن تكون آخرها.
ومع تأكيدي أن إيجاد توازن بين الحفاظ على الصحة، وإبقاء عجلة الاقتصاد متحركة أمر غير سهل، وأن الأولوية للصحة بكل تأكيد، ودون مفاضلة؛ فإن هذا يجب أن يعني أيضا، ضرورة حماية معيشة الأردنيين ومصالحهم، وعدم السماح بتركهم أمام معضلات صعبة، تفوق إمكاناتهم، بعد انقضاء الأزمة.
والواقع أن قرابة 4 أشهر هي عمر الأزمة، التي لا بد أن الحكومة كانت تتوقع تأثيراتها، خاصة وقد وصلتنا متأخرة؛ وقت كاف لوضع خطط وحلول عملية لإدامة الحياة بأكبر مقدار من الطبيعية، خاصة أن عشرات من بيوت الخبرة الأردنية أدلوا بدلوهم في هذا الشأن، وغيرهم مئات من الخبراء والمؤسسات الدولية، ممن قدموا نصائح صادقة وبلا مقابل، سواء للحكومة الأردنية، أو عالميا.
لكن مع إنشغال الحكومة وصعوبة طلب النصيحة من أطياف واسعة، يتطوع الكثيرون لتقديمها، حبا وحرصا، آملين أن يجدوا أذنا صاغية؛ وهذا ليس لوما أوعتبا، لكنه واجب ومسؤولية، يحتمان دق الناقوس.
لقد حققنا ما نحن فيه اليوم، أولا بلطف الله ورعايته، ثم بحكمة وحزم ومتابعة جلالة الملك، المترافقة بتفاني السواد الأعظم من الجسم الطبي الأردني، ودعم القوات المسلحة الباسلة والأجهزة الأمنية، وما يملكه المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات من خطط كفؤة للتعاطي مع مختلف الكوارث، والجهود الصادقة للكوادر والأجهزة المدنية، بالإضافة طبعا، إلى وعي المواطن وصبره.
والآن، يجب أن نلتفت إلى الأهم، وهو إدامة الحياة واستعادة أكبر قدر من سياقها الطبيعي، في أسرع وقت، وتحديدا الشق الاقتصادي والتجاري منها، الذي يعني أيضا حياة الأردنيين وقوتهم اليومي.
فحتى اليوم، فإن معظم ما اتخذته الحكومة من إجراءات اقتصادية، ضيق، ويصب أساسا في صالح القطاعات الكبرى، فيما لا يخفف إلا قليلا عن كاهل المواطن، ولا يلتفت برؤية شمولية للقطاعات التجارية والخدمية والصناعية، وحتى الزراعية، المتوسطة والصغيرة، بينما توجيهات جلالة الملك كانت بضرورة الاعتناء بهذه المسألة على وجه السرعة.
وحتى أمر الدفاع 6 الذي رجونا أن يكون بلسما شافيا، تبين أنه كمن يحاول علاج الشلل بعقار للرشح!، وانتهى الحال باستقباله بسلبية كبيرة من أصحاب العمل والعمال على حد سواء، فخارج إطار بعض التفاصيل القانونية التي تمتلك الحكومة القدرة على التحكم بها، لم يأت بحلول حقيقية قابلة للتطبيق.
وقد أملنا أن تبدأ الحكومة بإدخال تعديلات ومعالجات لأوجه القصور فيه منذ اليوم التالي لصدوره، خاصة وأن الخبراء المحليين قد أوضحوا ما فيه من عيوب وآليات معالجتها، لكن شيئا من هذا لم يحدث حتى الآن، بل الأسوأ أن معظم الجوانب الأهم في أمر الدفاع، والتي وضعتها الحكومة ذاتها، لم تفعّل، فلا سمعنا بقرارات اللجنة المعنية بتحديد أسس العودة للعمل، ولا رأينا آليات إخضاع عمال المياومة لمظلة الضمان الاجتماعي باعتباره شرطا لتلقيهم الدعم الحكومي، وإن كان شرطا صعبا في مثل هذا الظرف، ولا تم إعلان تفاصيل برنامج الحماية الاقتصادية، والحوافز الممنوحة للقطاع الخاص.
وفيما يذوي القطاع الخاص ويموت، لا نرى علاجا للمشاكل الحقيقية، ويكتفي أمر الدفاع 6 بالحديث عن شركات تتمتع بقدر لا بأس به من الملاءة المالية، فيما معظم القطاعات في السوق الأردني هي أشبه بعامل المياومة الذي يأتيه رزقه يوما بيوم، فلا أحد التفت لقطاع السياحة والسفر، ولا لأصحاب محلات الملابس والأقمشة الذين يعانون أصلا منذ ما يزيد على عامين، ولا المطاعم الشعبية التي بالكاد يكفي دخلها قوت العاملين بها، ولا محال النثريات والأدوات المنزلية والمكتبات والحلويات وسواها.
إن قصور النظرة إلى السوق، والبلد بشكل عام، كفيل بتحويل ما تظنه الحكومة كافيا لعودة الدورة الاقتصادية إلى وضعها الطبيعي خلال أقل من 100 يوم، إلى المسمار الأخير في نعش هذه الدورة.
بل والأكثر من ذلك أن الحكومة تطالب، ولو ضمنيا، العاملين بالقطاع الخاص بالاستغناء عن 30-50% من أجورهم، ولا تطبق ولو اقتطاعا هزيلا على رواتب كبار موظفي ومسؤولي القطاع العام والمؤسسات شبه الحكومية.
ومع أنني أختلف في مسائل عديدة مع محافظ البنك المركزي وسياساته، لكن، والحق يجب أن يقال، البنك المركزي كان المبادر الأول بإجراءات ذات بعد شمولي إلى حد ما،
لكن السوق يحتاج المزيد، ومن ذلك مثلا تقديم سلف للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، بمعدل فائدة بسيط، ومدد سماح طويلة، تمكن هذه القطاعات من تأمين أساسيات عودتها للعمل.
على الحكومة أن تولي العناية الكافية والواجبة للشطر الأعظم من القطاع التجاري والخدمي ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطى والشرائح الواجب حمايتها، وتمكينهم من الصمود في مجابهة ظروف استثنائية؛ فهؤلاء هم عصب الاقتصاد والمحرك الرئيس للسيولة والسوق.
ومجمل ما اتخذته الحكومة من تكتيكات، حتى اليوم، لا يحرك السوق، ولا يضع سيولة بأيدي الناس، وبتعبير آخر: لا يضع وجبة على المائدة.
وهنا نقترح أن يكون جزء من العودة المتدرجة للحياة، بالإبقاء على حظر التجوال الجزئي، مع السماح بحركة السيارات، وسيارات النقل العام الصغيرة، وفتح المحال التجارية، وفتح المطاعم لخدمتي التوصيل واستلام الطلبات من المحل، مع الإبقاء على حظر التجمعات؛ وكل ذلك ضمن ضوابط صحية وعددية صارمة؛ أولها إلزام كل صاحب عمل ومزود خدمة يرغب بالعودة إلى العمل بإجراء فحص الكورونا لجميع العاملين على نفقته، ومن يعجز عن ذلك في ظل ارتفاع التكاليف، يمكن أن تتم مساعدته عبر الجهات الأهلية والرسمية.
وبما أن معظم المحافظات لم تسجل أي إصابات بحمد الله، فلم لا يتم رفع الحظر داخلها، مع الإبقاء على عزلها عن بقية المناطق؟ بما يخدم اقتصاداتها الصغيرة، ويخفف من أثر التراجع الشامل.
فقد رأينا كيف أن الكثير من المنشآت الصغيرة والمتوسطة، ورغم التحذيرات والتهديدات الحكومية، عجزت عن دفع رواتب موظفيها، وبعضها رفع راية الاستسلام وترك القضاء حكما بينه وبين العاملين، ليس لأنه لا يريد دفع ما عليه، لكن لأنه، في أغلب الحالات، لا يستطيع..
وبغير ذلك ستجد الحكومة نفسها على المدى القصير، دون سيولة تمكنها من العمل هي أيضا، في ظل تجفيف منبع دخلها الرئيس المتأتي من الضرائب والرسوم، وحينذاك لا حل إلا بمزيد من الاقتراض ومراكمة الديون التي ستثقل كاهل الأردن لسنوات وسنوات، وحتى هذا الخيار بات صعبا في ظل التدافع العالمي على المقرضين مع شح السيولة.
وقد بدأ ذلك بالفعل، كما بدأت مناقلات عديدة تحدث في الموازنة، وتوقعات نسب وأرقام النمو في انحدار مستمر، ونحن اليوم في أمس الحاجة لإعلان إجراءات عملية وشمولية تخرج من إطار التفكير بأن الاقتصاد يتكون من بضع شركات كبرى – على الرغم من أهميتها – ويجب أن يتم ذلك سريعا، فكلما تأخر طرح هذه الإجراءات تأخرت كل عملية النهوض، ولو تأخرنا أكثر فإن بعض القطاعات قد لا ينهض.
ورغم أن جزءا من الفريق الوزاري يرى أن كل مصاب هو مرشح لأن يتحول لبؤرة، ويجدد الانتشار، لكننا تعلمنا من التجربة الوطنية قبل العالمية طرق وآليات السيطرة بأقل الخسائر، كما أن التمسك بهذا الرأي يعني البقاء في رعب مستديم طالما أنه لا يمكن فحص كل المواطنين، وطالما لم يتم انتاج علاج ولقاح، وطالما بقي في العالم مريض واحد، وهذا أمر غير منطقي، يعني من ضمن ما يعنيه إبقاء البلد مغلقة في وجه العالم، وإبقاء آلاف من مواطنينا العالقين حول العالم بين براثن الغربة، كما أنه يعني بالتأكيد بقاء أعمال الناس وأرزاقهم مهددة بالتعطل في أي لحظة لأجل غير مسمى، ما يعني زيادة مضطردة في نسب الفقر والبطالة.
صحيح أن هناك مبادرات رسمية وشبه رسمية تعمل مشكورة بجهد كبير لمساعدة المتضررين والأقل حظا، لكنها لا تستطيع وصول كل مستحق ومحتاج، بالإضافة إلى أن توزيع المواد العينية أو المساعدات النقدية الصغيرة أمر غير قابل للاستدامة، ولا يعالج حالة عامة، خاصة أن الكثير من الناس يؤثرون التعفف ولو كان بهم خصاصة، فهذه طبيعة الأردني التي جبل عليها منذ كان.
[10:23 AM, 4/13/2020] Hamzeh Mzher: إن حياة مواطن واحد أثمن من كل مال الدنيا. وفي نفس الوقت، فإن حماية معيشة الناس ومصالحهم وقدرتهم على تأمين أساسيات العيش الكريم والاطمئنان على مستقبل أبنائهم، يجب أن يشكل أولوية على كل صعيد. لكن ما يجري، يشبه من يريد أن يحميك من غاز سام فيكتم أنفاسك بيديه. ولسنا اليوم في وضع نضطر فيه إلى الاستجارة من الرمضاء بالنار، فالحمد لله ما زلنا بعيدين عن ذلك.
من المهم أن نتذكر أننا جميعا في قارب واحد، ولا يمكننا أن ننجو إلا بالعمل وحدة واحدة متكافلة متضامنة، ولا يمكن للجهات الرسمية وحدها أن تفعل كل شيء وتحل كل إشكال، وإلا لكانت فعلت ذلك منذ عقود، لذا فلا مخرج إلا بإشراك القطاع الخاص بصورة فاعلة في كل مفاصل هذه المسألة.
اليوم نحن جميعا أفراد في طاقم سفينة كبيرة إسمها الوطن، ولا يمكنها أن تصل بنا إلى بر الأمان إلا بجهد وفكر كل أبناء طاقمها.
يجب على الحكومة أن تنتشل نفسها من زحام التفاصيل حتى تتمكن من رؤية الصورة الكاملة، قبل أن نقع بين فكي كماشة كل منهما أشد قسوة من الآخر.
كل ما سبق ليس إلا نصيحة صادقة، ودعوة لإعمال الفكر، حتى نخرج جميعا بأفضل توازن يحمي صحة الأردنيين، وفي ذات الوقت يحفظ طبيعة حياتهم وأرزاقهم وكراماتهم. وسيكون لكل منا في هذا دور كبير، فالالتزام بالتعليمات الصحية والرسمية واجب، والحفاظ على التباعد الاجتماعي سيستمر لأشهر طويلة، حتى إيجاد علاج ولقاح لهذا المرض اللعين.
وفي الختام، نتمنى للحكومة الرشيدة كل التوفيق، فنجاحهم فيه سلامة الوطن وأهله، وكل ما نرجوه أن يكون النجاح الاقتصادي موازيا في مستواه لنجاحها الطبي. كما أجدد التحية للجند البواسل، في قواتنا المسلحة “الجيش العربي”، والأجهزة الأمنية، فلا يقارب تضحياتهم وجهدهم ولا يدانيه إلا ما يقدمه “الجيش الأبيض” من نشامى ونشميات الكوادر الطبية والصحية، ومعهم أرتال الموظفين المدنيين الذين يرزحون تحت عبئ إبقاء القطاعات الرئيسية عاملة، فيما نجلس في بيوتنا آمنين.
حمى الله الوطن وأهله وقيادته من كل شر وسوء.