جميعُنا يعرف أن المذكرات السياسية تمتاز بأنها تُتيحُ للقارىء التعرف على حكايات واقعية لم تروى من قبل …. يُكتشف من خلالها الشخصية الحقيقية لكاتبها …. وأبرز المذكرات وأهمها هي التي تخرج من سياسيين ورجال دولة.
لم يُمارس السياسة بالوراثة وبشكل أفقي فقد تدرج من أسرة بسيطة عاشت في الصريح حتى وصل إلى أعلى المناصب …. فهو يُعد من أحد أبرز المرجعيات السياسية التي لا يمكن تجاوزها في المشهد السياسي الأردني المُعاصر.
فهو صاحب بديهة حاضرة دوماً ويُعد ظاهرة سياسية يصعب تقليدها أو تكرارها ومن الشخصيات القليلة التي جمعت بين السياسة والفكر …. ففي الحق يعلو صوته إلى عنان السماء وصمته أحياناً ما هو إلا الهدوء.
قال عنه الملك أن عبدالرؤوف تحضره البديهة وصاحب نكتة طيبة أحياناً وموجعة أحياناً …. فلسانه حاد حين تكون الرياح في غير ما يشتهيه …. وهذا ما سمعته أنا شخصياً من جلالة الملك عن عبدالرؤوف أثناء استقبال الملك لمرزوق الغانم رئيس مجلس الأمة الكويتي عام ٢٠١٣ حينما كنت رئيساً للجنة الإخوة البرلمانية الأردنية الكويتية في مجلس النواب السابع عشر.
كان عبدالرؤوف الروابدة دوماً وفي كل المحطات التاريخية التي عصفت بالبلاد في صف الوطن …. وكان لديه نظرة ثاقبة ومتبصرة في ما يجري ، ولطالما دعا الجميع في الأردن إلى أن يتناسوا خلافاتهم السياسية ويضعوها جانباً لإيمانه المُطلق أن النظام السياسي الأردني متسامح مرن يقبل الآخرين مهما كانت انتماءاتهم.
فعبد الرؤوف لم يحظر ذاته في عالم السياسة فقط فقد استطاع أن يتكيف مع مختلف الوجوه في السياسة والثقافة والإجتماع والإقتصاد …. فنشاطه السياسي لم يُفسر في يوم من الأيام على أنه مناكفة فهو معروف بجرأته الإستثنائية ويمتلك جرعة زائدة من نوستالجيا زمن العذرية الوطنية …. زمن الكبار والنُخب والرموز …. زمن لم يتغلغل فيه الفساد ولَم يسرِ في عروقه …. أيام كان لكل شيء قيم وأخلاق …. قيم في الإختلاف وأخلاق في التخاطب …. فعبدالرؤوف مع حفظ الألقاب لم يتقاعد وظل يتموضع في ظل النظام السياسي وكان يُمثل الأردني ببساطته وصدق ونقاء ضميره وصفاء نفسه وبياض يديه …. فلم يجيدُ فن التلون والمراوغة فشخصيته ليست كذلك فقد كان واضحاً لا ترده أية حواجز ويؤمن أن الخلاف في الرأي في عالم السياسة له آدابه …. وكان يُزعج الآخرين الذين أعتادوا ممارسة الغدر والطعن من الخلف.
فعجيب كم لهذا الرجل من ذاكرة فهو يجهد نفسه كثيراً في البحث في ركام الذاكرة …. فهو يملك مخزوناً لا يستند إلى تجربة طويلة وحسب بل عمدتها ثقافة واسعة وقدرة على السرد …. فقد مضت معه السنون حاصدة في مشواره وهج ما أنجز …. فهو لا يزال يعيش بأفكاره ويرصد الأحداث بكل أمانة فتجربته هي نصف قرن من العلم والخبرة والعمق.
فمن خلال مذكراته نرى أنه لم يحتكر الحقيقة فقد أستطاع بأسلوبه وعمق رؤيته أن يجعلنا نعيش الذكريات …. فقد تحدث عن أبرز المراحل التي مرت بها الدولة بدءاً من الإستقلال وقبل ذلك …. فلا أذكر كما يذكر البعض على أن الروابدة تعامل مع الوقائع بالقطاعي …. فالمُتتبع لمحظراته وكلماته بجميع المناسبات يكتشف أنه استخدم عبارات قوية وأبرز ما يميزها هي المصادر المطلقة الدالة على زمانها ومكانها …. فمفرداته تتكرر وبعضها كملح الطعام يخالط كل مناسبة.
فعبد الرؤوف هادىء فهو أقرب في حديثه وعلاقاته إلى حكماء الزمان …. فالأردنيين يذكرون الجاهة السياسية والعشائرية التي تمت بين الأردن واليمن والتي قادها الروابدة إلى اليمن بحضور الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح …. فخلال جلسة واحدة أنهى أبا عصام أزمة سياسية وعشائرية وقضائية كبرى.
فربما داهمني الوقت وأطلت في الكتابة وكادت المساحة المخصصة لي تقترب من نهايتها رغم عدم دعوتي لحضور حفل الإشهار الذي تم …. لكنني أختم بالقول أن الأردن لن ينهض من أزماته إلا بوجود سياسيين ورجال دولة …. فمنذُ زمن غاب رجال الدولة وتُرك الملعب للطارئين الذين تقدموا الصفوف.
فكم نفتقد هذه الأيام إلى رجال دولة يحاورون تحت سقف ثوابتنا الوطنية ويتنازلون لمصلحة الأردن ويخسرون لتربح الأردن.