كتب د. عبدالحكيم الحسبان –
(الجزء الاول)
في مقاربة أنثروبولوجيا الدولة في الأردن، يمكن للمرء أن يلحظ أربعة أطوار عاشها سكان شرق النهر مع دولتهم ومع السلطة التي تحكم بدءا من الحكم العثماني مرورا بعهد الإمارة وحقبة التأسيس وصولا إلى الحقبة أو الطور الذي نعيش. وفي مسار العلاقة التاريخي الطويل بين الأردنيين ودولتهم كانت الدولة تتغير في بنيانها وفي وظيفتها، وكان المجتمع نفسه يتغير أيضا في بنيانه وفي توقعاته وفي نمط علاقته مع الدولة
ففي الطور الأول الذي سبق قدوم الهاشميين للحكم واستطرادا في فترة الحكم العثماني، لم تكن الدولة حاضرة في حياة سكان شرق الأردن، وكان على سكان شرق النهر أن يؤمنوا شروط بقائهم اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا وتعليميا بعيدا عن الدولة. ولم تكن الدولة حاضرة إن في التعليم أو الطبابة أو الأمن أو القضاء بل كان على المجتمع نفسه الذي كان في جله يتشكل من مجتمعات فلاحية مكتفية ذاتيا أو مجتمعات رعوية متنقلة أن يؤمن شروط بقائه. وأما دور الدولة العثمانية فقد كان في يقتصر في الغالب على جمع الضرائب من ذلك الفائض الذي كان ينتجه بعض الفلاحين ليذهب مباشرة إلى المركز أي استانبول وحيث يتم استثمار هذا الفائض في بناء القصور والمساجد التي يذهب كثير من الأردنيين سياحا للتنعم بمناظرها
وفي حقبة الإدارة العثمانية لشرق الأردن، لم يكن يتم تحصيل الضرائب من الفلاحين كي يتم إعادة إنفاقها على سكان شرق الأردن أنفسهم من خلال بناء المدارس أو المشافي أو شبكات الطرق أو المحاكم التي تفض المنازعات بين الناس ناهيك عن بناء المسارح أو الصروح المعمارية الضخمة. بل إن معظم الأموال أو جلها كانت تجد طريقها لتذهب إلى استانبول لكي تنفق هناك. في الحقبة العثمانية كان على الأردنيين أن يؤمنوا ذاتيا تعليم بعض أبنائهم، كما كان عليهم أن يؤمنوا ذاتيا تسوية المنازعات من خلال اللجوء للعرف أو العشيرة، وكان عليهم أن يؤمنوا الحماية لأنفسهم ذاتيا من خلال التوازنات العشائرية والمناطقية فلا مراكز للشرطة أو الأمن تنفق عليها الدولة العثمانية. والحال، أنه في مختلف مناطق شرق الأردن يسهل عليك أن تجري مقارنة بين ما أنجزه سكان هذه البلاد من صروح معمارية أدهشت العالم خلال الحكم اليوناني والروماني، ولكن يصعب عليك أن تجد أثرا تركه سكان هذه البلاد تحت الحكم العثماني باستثناء الخط الحديدي الحجازي
وفي الطور الثاني من هذه العلاقة التي بدأت مع تأسيس الامارة في بداية القرن العشرين بدأت حقبة جديدة من حضور الناس في الدولة ومن حضور الدولة في حياة الناس. في هذه الحقبة بدأت السلطة بتأسيس المركز (العاصمة) ليكون داخل الأردن نفسه بعد أن كان شرق الأردن طيلة الحكم العثماني مجرد طرف تابع Periphery . فكان التأسيس لتكون عمان هي المركز أو العاصمة. وفي هذه الحقبة التي بدأت مع الأمير الراحل عبدالله ومع الملكين الراحلين طلال والحسين شهدت العلاقة بين الأردنيين دولتهم تحولا ثوريا، فالدولة التي لم تكن حاضرة في حياة الأردنيين وكانت غائبة أو شبه غائبة عن الاقتصاد والسياسة والأمن والطبابة، باتت وكأنها تريد أن تكون حاضرة في كل مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والقانونية
في هذا الطور لم ترد الدولة للتعليم أن يترك للناس، فقامت ببناء آلاف المدارس بعد أن ورثنا من الحكم العثماني مدرستين أو ثلاث مدارس فقط. وفي هذا الطور لم يعد على الناس أن يؤمنوا ذاتيا عناصر حمايتهم وأمنهم، فأنشأت الدولة جيشا وأجهزة للأمن ليتم بمقتضاها التحول من الأمن الذي توفره العشيرة إلى الأمن الذي توفره الدولة. وفي هذه المرحلة حضرت الدولة طبيا في حياة الناس واستبدلت مستشفياتها ومراكزها الطبية الدور الذي لعبته القابلة القانونية واالداية والساحر وطبيب الإعشاب الشعبي
وفي هذه الحقبة راكمت الدولة مسارا طويلا من الحضور الاقتصادي في حياة الأردنيين. فالأردنيون الذين أنتجوا اقتصادهم لقرون بعيدا عن الدولة باتت الدولة تقول لهم أن الأمر يعود لي حينما يتعلق الأمر بوظائفكم ورزقكم وعيشكم وأمنكم. فاستثمرت الدولة في حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانينات في مشاريع اقتصادية ضخمة كقناة الغور وفي مشاريع إنتاجية ضخمة كالفوسفات والاتصالات والبوتاس، بل كانت الدولة هي من تبني أول فندق من فئة الخمسة نجوم
وفي هذا الطور كان حرص الدولة الأردنية على أن تنقل السكان من “كائنات اللادولة” إلى “كائنات الدولة”، أن تبنت نموذجين يعدان متناقضين في الحكم: فالدولة التي كانت تجمع ما بين عناصر كثيرة من الاقتصاد الليبرالي واقتصاد السوق، كانت في الآن ذاته تمتلك الكثير من أدوات النموذج الاشتراكي في السياسة والإدارة. وعليه، فقد كانت الدولة تترك هامشا من الحركة للقطاع الخاص كي يستورد ويصدر ويستثمر ولكن الدولة كانت تصر على أن تكون حاضرة في الاستثمار والاستيراد والتصدير، بل كانت الدولة تمارس ومن خلال وزارة التموين دورا كبيرا في ضبط الاستيراد والتصدير والإنتاج والأسعار. في تلك الفترة يمكن كانت الدولة تحدد سعر علبة السردين والتونا وكانت أجهزة الرقابة حاضرة في مكان، ويكفي تصفح بعض أخبار الصحف في تلك الفترة لتقرأ عن غرامات وعقوبات تصل حد السجن لتجار قاموا بزيادة قرش أو قرشين على بعض المنتجات
وفي هذا الطور تمت زيادة الرواتب مرات ومرات، كما زادت القدرات الاستهلاكية للناس مرات ومرات، وفي هذا الطور تحولت الدولة وبيروقراطيتها إلى رجاء الأردنيين وأملهم. فبات أكثر من ستين بالمائة من الأردنيين يعملون في أجهزة الدولة. وبعد أن كان كل سكان شرق الأردن يسكنون في القرى أو البادية، حيث يمارسون الفلاحة والرعي، اتجه معظم السكان نحو المدن لنشهد ولادة مدن حديثة ومليونية. وبلغت ذروة هذا المسار من تكريس حضور الدولة في حياة الناس أن صار الأردنيون يبحثون عن كل شروط حياتهم لدى الدولة، فالوظيفة والعمل بات من مهام الدولة، والعلاج والدواء بات ينتظره الناس من الدولة، كما بات الأردنيون ينتظرون من الدولة تعليم أبنائهم وبناتهم
وفي هذا المسار الذي يكرس حضور الدولة في حياة الناس، استفاد الراحلان الأمير عبدالله والملك حسين من تطورات الإقليم والعالم إن كان على صعيد الحرب الباردة، أو على صعيد ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات، او على صعيد تطورات القضية الفلسطينية. كما استفاد الراحلان من ذلك المخزون الثقافي الذي ميز سكان هذه البلاد الذي ساهموا في أكبر التحولات التي شهدها التاريخ الإنساني من اكتشاف الزراعة او اختراعها، ومن اختراع الكتابة والدولة وتأسيس المدن. وفي هذه الطور أيضا أجاد الملك الراحل الحسين الإفادة من والاستثمار في موقع الأردن الجغرافي الذي يتوسط أحزمة النفط والتلمود والايدولوجيا فتم مقايضة الدور الأردني على مستوى الإقليم الواسع بأثمان اقتصادية معقولة لتستثمر في إحداث تنمية اقتصادية واجتماعية وحضرية في حياة سكان هذه البلاد
وأما في الطور الثالث من حياة الأردنيين مع دولتهم والتي يمكن التأريخ لها بنهاية الثمانينات وحيث مرحلة الاستقطاب ما بين مجلسي التعاون الخليجي والتعاون العربي الذي كان الملك الحسين أحد عرابيه, وحيث اندلاع الانتفاضة الفلسطينية وحيث حرب الخليج الأولى والثانية، وحيث تفكك الاتحاد السوفييتي، وحصار ميناء العقبة، وطرد العمالة الأردنية من دول الخليج وعودتها بين عشية وضحاها، وانهيار الدينار الأردني وخروجه من التغطية بسلة عملات تمهيدا لوضعه تحت وصاية الدولار ووصولا إلى وضع الاقتصاد الأردني برمته وليس الدينار فقط تحت رحمة صندوق النقد الدولي ودهاقنته التلموديين ومن أصدقائهم في الإقليم
في هذا الطور والذي يمكن التأريخ له بمولد الريغانية في الولايات المتحدة والتاتشرية في المملكة المتحدة، وبالحصار حد الإطباق على اقتصاد الأردنيين ودولتهم والذي بلغ ذروته سياسيا بالذهاب إلى وادي عربة وتوقيع المعاهدة الأردنية الإسرائيلية وحيث سبق الأردن في التوقيع كل من مصر والسلطة الفلسطينية ، تسلل إلى مفاصل السلطة في البلاد من طرح “شعار الدولة الأردنية التي تضخمت في حياة الأردنيين” مروجا لشعار “انسحاب الدولة” من حياة الأردنيين. وبالتوازي مع تسلل تيار “انسحاب الدولة” من حياة الأردنيين كان اليمين الإسرائيلي الديني الذي يتبنى “الخيار الأردني” والحل الأردني وشعار “الأردن هو فلسطين” يتصدر المشهد السياسي الإسرائيلي
منذ تسعينيات القرن الماضي بدأت رحلة انسحاب الدولة من حياة الأردنيين، وبدأ الأمر بالتعليم حين تم طرح مقولة أن الدولة التي داهمتها عودة الأردنيين العاملين في الخليج لا تملك ما يكفي من المال لاستيعاب أبنائهم في الجامعات الحكومية، فطرح شعار الحل في الجامعات الخاصة، وتم تسويغ الفكرة باعتبار أن أفضل جامعات العالم في الولايات المتحدة هي جامعات خاصة فلم الخوف من القطاع الخاص في الحالة الأردنية. المفارقة هي أن أصحاب هذا الرأي تغافلوا ولم يخبرونا أن الجامعات الخاصة في الولايات المتحدة لا تعني أن هناك شخص او مجموعة من الأشخاص يمتلكون جامعة
وتطور مشروع سحب الدولة الأردنية من حياة مواطنيها وانسحابها حد تجميد انخراط الدولة في بناء المشاريع الجديدة وصولا إلى ارتكاب جريمة كانت بحجم وطن وأمة؛ بيع مؤسسات وشركات الدولة التي كانت ترفد ميزانية الدولة بالمليارات تحت يافطة اسمها “التخاصية” والتي كانت أشبه بعمليات تصفية للدولة، ووجودها وحضورها وشرعيتها التي راكمتها على مدى عقود طويلة من الجهد والعرق بل وحتى الدم. فقد أدى توقف الدولة عن الاستثمار في المشاريع الكبرى في البنية التحتية وبيع شركات الدولة ومؤسساتها لهوامير السوق إلى حرمان الدولة من الموارد المالية التي يمكن لها من خلالها إن تستمر في الحضور في حياة الأردنيين اقتصاديا وطبيا وسياسيا واجتماعيا. ما أدى في النهاية إلى مستويات غير مسبوقة في معدلات البطالة والفقر والحرمان والعنف والجريمة، كما أدت السياسات النيوليبرالية في انسحاب الدولة من المشهد وترك الساحة لهوامير السوق إلى إنهاك الطبقة الوسطى التي هي صمام الأمان في الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني في أي مجتمع إنساني
في الطور الثالث من علاقة الأردنيين بدولتهم يبدو المشهد معقدا ومثقلا بالتحديات التي على الأردنيين مواجهتها بل ومهاجمتها في الداخل كما في الإقليم كما على الصعيد العالمي. وفي الطور الثالث من علاقة الأردنيين بدولتهم يعيش الأردنيون سباقا مع الزمن ضد تحالف أمريكي- إسرائيلي يعتقد إن مستوى الإنهاك وضنك العيش الذي يعيشه الأردنيون بات يسمح لهم أن يبتلعوا الأردن كيانا ودولة ليكون الحلقة المستجدة في المشروع التوسعي الصهيوني
ذات يوم كان على سكان هذه البلاد أن يعيشوا بعيدا بل عن الدولة بل وبمعزل عنها، وذات يوم تكونت عندهم دولة تنقلهم من فضاء القرية والعشيرة إلى فضاء الدولة الأوسع، ولتحضر الدولة في كل تفاصيل حياتهم حتى أكثرها حميمية، ثم وبعد أن اعتاد الناس على حضور الدولة وعلى تشكيلها لكامل تفاصيل حياتهم في السياسة كما في التعليم كما في الطبابة كما في الاقتصاد، كان هناك من قوى الداخل متحالفا مع قوى الإقليم وقوى الخارج من أراد للدولة أن تنسحب من حياة الناس لتتركهم ومصيرهم توطئة لابتلاع الوطن والناس والدولة