بديل الرزاز واستعادة أول حكومة حزبية في الأردن
مهند مبيضين
في بلدٍ مثل الأردن، لم تتطوّر فيه الأحزاب بشكل جاد، ولم تكن هناك مسارات مستمرة للحياة الديمقراطية، كان يجب أن تنعكس عملية الوصول إلى الحكومات بالشكل التقليدي، والأمر في النهاية والبداية في ملكيّة مستقرّة ونظام هاشمي رحب، أن يكون اختيار رئيس الحكومة بيد الملك، صاحب الولاية، وفقاً للدستور.
كانت أول حكومة أردنية قبل نحو مائة عام قد شُكلت في 11 إبريل/ نيسان 1921 بقيادة حزبية، وأعضاء أغلبهم من حزب الاستقلال العربي الذي نشأ في سورية، مدافعاً عن استقلال البلاد العربية من الانتداب، ولكن سياسات حكومة الانتداب البريطاني في الأردن ضاقت ذرعاً بتوجهات تلك الحكومة، لأفكارها الوطنية والعروبية، ولأنها، وأمير شرق الأردن، عبد الله بن الحسين، قدّما الدعم للثوار العرب في سورية، واستقبل الأمير معظم الذين كان يطاردهم الفرنسيون والبريطانيون الذين أجبروهم لاحقا على الاستقالة، وضغطوا على الأمير عبد الله لإخراج الاستقلاليين العرب من عمّان. وذهب قسم منهم إلى مصر وآخر إلى السعودية. وقد كتب المؤرخ سليمان الموسى في كتابه “تاريخ شرقي الأردن في القرن العشرين”: “.. والحكومة البريطانية مصمّمة على أن لا تصير بلاد شرق الأردن مركزاً للعداء سواء كان لفلسطين أو لسوريا..” (ص 152).
حدث في العام 1924 أن الأمير عبد الله بن الحسين كان في الحجاز لزيارة أخيه ملك الحجاز، علي، وأداء الحج، ثم عاد فبلغ عمّان في شهر أغسطس/ آب، ولكن الأردن تعرّض في شهر يونيو/حزيران لأوسع هجوم وهابي، في ظل حكومة الرجل الضعيف وحليف بريطانيا، حسن خالد أبو الهدى. لكن الحكومة تغيرت، وجاء علي رضا الركابي رئيسا لحكومة جديدة، وهو من قادة حركة الاستقلال، وقيادي عروبي سوري بارز في المملكة السورية التي انتهت بعد معركة ميسلون 1920. كان وطنيا وضايق الإنجليز، كما يقول عارف العارف في مذكراته عن شرقي الأردن. وفي 24 أغسطس/ آب، وفي أثناء حكومته، هاجم أحرار أردنيون وسوريون المراكز الفرنسية، حتى إنها وصلت إلى قرب دمشق من جهة باب السريجة، وقتل فرنسيون عديدون، ونشرت الصحف الحوادث، واتهمت سلطات الانتداب الفرنسي حكومة شرق الأردن بالتغاضي عن نشاط الثوار على أراضيهم، بل اتهمتها بدعمهم وتشكيل قاعدة لهم. ولمّا عاد الأمير من الحجاز، تلقى إنذاراً من سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين، وطلباً بالقبض على المجرمين، مع طلب بسط الرقابة على الأمور المالية من دون قيد وشرط، وإلغاء نيابة العشائر، وإخراج المتهمين في حوادث الحدود مع سورية، وقبول اتفاق تسليم المجرمين معها.
كان أغلب المتهمين في تقويض الانتداب الفرنسي من الأردن هم الأمير عادل أرسلان رئيس الديوان الأميري، وأحمد مريود ونبيه العظمة وأحمد حلمي وعثمان قاسم وفؤاد سليم وسامي السرج ومحمود الهندي، من قادة الحركة العربية. وهكذا انتهى وجود حكومة الاستقلاليين في الأردن، ودورهم السياسي التنفيذي.
وفي عام 1957، نجح الحزب الوطني الاشتراكي بأغلبية مقاعد مجلس الأمة، ورأى الملك حسين الاستجابة للمطالب القوميّة واليساريّة تشكيل حكومة أغلبية حزبية، ووقع الخيار على زعيم الحزب وأمينه العام، سليمان النابلسي، ليشكل أول حكومة حزبية في تاريخ المملكة، أي بعد الاستقلال 1946، وألفت الوزارة كما كتب سليمان الموسى (ص 663): و”فيها أحد البعثيين المتطرفين عبد الله الريماوي، وأحد أعضاء الجبهة الوطنية الموالية للشيوعيين.. وكان العدوان الثلاثي على مصر عاملا قويا في تأييد وجهة نظر الحزبيين اليساريين والحكومة المؤيدة لمصر، لكن الحكومة لم تستمع لطلب الملك حسين بمهاجمة إسرائيل، عملاً بالاتفاقية العسكرية بين مصر والأردن”. ويضيف الموسى: “سارت الحكومة على خطةٍ غير حكيمة بالنسبة للملك والبلاد، إذ أخذ رئيسها وبعض أعضاء وزارته يلقون الخطب هنا وهناك، والثناء على رئيس دولة أخرى وإغفال الحسين، وهو الذي مكّن النابلسي وأعضاء حكومته من الوصول إلى الحكم.. هذه هي فرصة الحكومة التي ينتظرها الشيوعيون أن يُتاح لهم التغلغل في صفوف شعب يتفشى الجهل والفقر في أوساطه..”. عطلت حكومة النابلسي قانون مكافحة الشيوعية المعدل عام 1953، والذي يحظر العمل الحزبي الشيوعي، واصطبغت البلاد بصبغةٍ شيوعيةٍ، وتفشت الحزبية في جهاز الدولة، كما يرى الموسى، الكاره للعمل الحزبي، والذي يجب أخذ آرائه التاريخية بحذر لقربه من الحكم.
إثر ذلك، بعث الملك حسين رسالة إلى سليمان النابلسي، طلب فيها أن تسير الحكومة على تمكين البلاد من مواجهة التحديات، وتجنيب البلاد ميادين الحروب التي لا تُبقي ولا تذَر، وقال الملك: “كما أننا إذا مكنّا المبدأ الشيوعي الذي يؤاخي بين الشيوعي العربي والشيوعي الصهيوني، نكون بذلك قد فقدنا كل ميراثنا في الحياة كاملة لها مثلها وأهدفها وتاريخها، علينا أن نقاوم كل من يتعرّض لاتجاهاتنا ومعتقداتنا، فإنّا سنحيا عرباً ومسلمين ونقضي عرباً ومسلمين”. كان واضحاً أنّ الرسالة مقدمة لتنحية الحكومة، وأنها تحذيرٌ بالغ الشدة. لكن حكومة النابلسي، كما يوثق الموسى، مضت في نهجها الحزبي، فلم تقاوم الشيوعية، ولم يعمل رئيسها على تعديلٍ يخرج الوزيرين، البعثي والضالع مع الشيوعيين. وكان أن تلك الوزارة نظمت احتفالا بإنهاء المعاهدة مع بريطانيا، أي تعريب قيادة الجيش (1956)، فأعدت برنامجاً لم يأت على فضل الملك حسين في تحقيق ذلك المكسب الوطني. وفي 8 إبريل/نيسان 1957، توالت الحوادث متسارعة، فوقعت محاولة الانقلاب التي سميت مناورة هاشم، وقد رواها الملك حسين في مذكراته، وقيل إن القصد منها إحصاء السيارات المدنية والعسكرية الداخلة عمّان، ولكن القصد، كما يقول سليمان الموسى، كان تطويق عمّان. وعندما علم الملك، استدعى رئيس وزرائه ورئيس الأركان وقائد الفرقة المعنية اللواء علي أبو نوار، واستوضح منهما جَليّة الأمر. وكان جواب النابلسي أنه يعتقد أن تطويق عمّان إنما هو محاولة للضغط عليه لتقديم استقالته من منصبه، فيما أجاب أبو نوار بأن المقصد هو تفقد السيارات. لم يقتنع الملك بالردّين، “ومضى يومان من دون أن يتلقى جلالته الجواب المنتظر من رئيس الأركان”. وفي اليوم التالي، قرّر مجلس الوزراء اتخاذ قرار بتقاعد عدد كبير من الموظفين، منهم قائد الشرطة بهجت طبارة، وأحدث المجلس قرارات نقل أمنية، منها نقل مدير شرطة نابلس ذي الميول الحزبية مكان مدير شرطة عمان. ورأى الملك أن زمام الأمور بدأ يفلت، كما يرى الموسى في تدوينه للحادثة، فطلب من رئيس ديوانه يوم 10 إبريل/نيسان نقل رسالته إلى سليمان النابلسي بطلب تقديم الاستقالة “ولم يلبث النابلسي أن رفع كتاب استقالة، صيغ بما يُفهم منه أن الوزارة أُقيلت”.
وهكذا انتهت ثاني حكومة حزبية في تاريخ الأردن. ولم يكن متاحاً بعدها تكرار التجربة، لعوامل عدّة منها: تعطّل الحياة السياسية بعد النكسة، وأحداث الصدام مع الفدائيين الفلسطينيين في العامين 1970 و1971، وتعطيل الحياة الديمقراطية وصولا إلى عام 1989، والذي كان فاتحة خير سياسي وتعددية، ولكن الانتكاسة كانت بعد العام 1994 الذي أُقرّ فيه الانتخابات وفقاً لقانون الصوت الواحد. ومعنى ذلك أنّ العملية السياسية لإنتاج النخب السياسية في الأردن، وتحديداً بعد عام 1991، تولتها الدولة، وصار رؤساء الحكومات والوزراء يأتون من رحم المؤسسات، الجيش العربي، والمخابرات العامة، والجامعة الأردنية والبنك المركزي وغيرها. تكفلت الدولة بتصعيد نخبها، مع التأكيد على الولاء للعرش، والتوكيد على فهم التمثيلات، الجهوية والمناطقية والقبلية في الوزارات والمناصب العامة العليا. أما الاقتصاد فكانت نخبه غير مؤثرة سياسياً، وفي تشكيل الحكومات.
حاول عهد الملك عبد الله الثاني التجديد بجدية في أوساط النخبة السياسية، ولكن غالبية رؤساء الوزراء من ذات الخلفية بيروقراط ورجال أمن ومن أبناء الأعيان ورجال الدولة السياسيين سابقا، وهم عبد الرؤوف الروابدة وعلي أبو الراغب وفيصل الفايز وعدنان بدران ومعروف البخيت وسمير الرفاعي ونادر الذهبي وعون الخصاونة وفايز الطراونة وعبد الله النسور وهاني الملقي. وكان مجيء عمر الرزاز من خارج الصندوق التقليدي، وعلى الرغم من أنه ترقى بشكل سريع، منذ أول منصب عام له مديرا لمؤسسة الضمان الاجتماعي، عام 2008، إلا أن الرجل، وإنْ ينتمي لعائلة سياسية معارضة ذات توجه قومي، إلا أنه لا يرغب في أن يعيش في جلباب أبيه (البعثي المؤسس منيف الرزاز)، وله مساره الفكري الأقرب إلى الليبرالية. وقد عمل خبيراً في البنك الدولي، وهو باحث جاد. ويقول خصومه عنه “نحن من صندوق الخبرة الوطنية والبيروقراطية العتيدة، وعمر من صندوق النقد الدولي”.
مفهوم النخبة في منظور علم الاجتماع، والذي يدل على مجموعة مسيطرة ومؤثّرة وفاعلة، يُميّز النخب السياسية بأنها جماعات فاعلة، تُسيّر وراءها المجتمع، وتتمتع بإمكانات فكرية، تؤهلها لقيادة المجتمع وتسيير الأمور السياسية فيه. ومسار تكوين هذه النخب علميّاً يكون عبر الأحزاب والخبرة السياسية والاقتصاد، وقد تكون محتكرةً أدوات الإكراه من شركات وبنوك ومؤسسات إنتاجية. ولا ينطبق هذا التوصيف العلمي على النخبة السياسية في الأردن، والتي تشكلت بفعل ماكينة إنتاج الدولة.
مفهوم النخبة في منظور علم الاجتماع يدل على مجموعة مسيطرة ومؤثّرة وفاعلة، يُميّز النخب السياسية بأنها جماعات فاعلة، تُسيّر وراءها المجتمع
يمكن أن يكشف الحديث الدائر في أوساط إعلامية أردنية عن بديل لحكومة عمر الرزاز عن طبيعة تصعيد البديل، فكلّ من يُطرح اسمه إما موظف سياسي كبير أو وزير سابق أو جنرال أو رئيس حكومة سابق. وليس هذا عيبا، فطبيعة البلد كذلك، لكن المشكلة أن يكون البديل هو من يصنع من نفسه خياراً شعبياً، ويظن أنه مطلوب وطنياً للمرحلة المقبلة، في حين لا يقول الواقع بذلك بتاتاً، وربما لو أن الدولة لم تساعده في الظهور، لما عرفه أحد، وانتهى موظفاً متقاعداً من عقود.. ماذا يعني ذلك؟ يعني إخفاق النخب في صناعة البدائل أو تقديم البديل، وسيبقى الأمر بيد صاحب الولاية الملك، وبحسب من يراه كفاءة للمرحلة، ومن يحصل على رضى الجميع ممن يشاورهم.
سيبقى عمر الرزاز رئيسا للحكومة في الأردن إلى أطول فترة ممكنة دستورياً، ولم ينضج خيار البديل عنه، وسيكون عليه الاستمرار في مشروعه التحديثي وحماية المال العام وترشيق القطاع العام.