الفنانون والفن.. مسيرة ترف أم معاناة
د. ماجد الخواجا
استدرجني اليوتيوب على مدار ساعات وأنا أتابع وأشاهد تفاصيل وسيرة حياة فنانين رحلوا عن الدنيا لكن بقيت حياتهم مثار تساؤلات تستوجب الحديث عنها.
إن خلاصة ما يمكن قوله في سيرة الفن والفنانين وسيرة حياتهم ، يتمثل في اختلاف الصورة التي يظهرون بها على خشبة المسرح أو السينما أو التلفزيون عما هي عليه في واقع الحال.
إن غالبية الفنانين جاءوا من بيئات فقيرة وكادحة، ومنهم عدد لا بأس به يأتي من عائلة مفككة أو بائسة، فتجد أن الزوج والزوجة قد انفصلا أو عانى الفنان من ظلم شديد وقع عليه أثناء طفولته.
وأيضا فإن غالبية الفنانين يتم اكتشافهم صدفة وبعد معاناة في دخولهم إلى ساحة الفن، أي أنهم لا يستندوا في أدائهم إلا على مهاراتهم الشخصية والجسدية، فتجد أن المدخل للفنانات هو شكلها ودرجة مسحات الجمال عليها، بينما يمكن للفنانين الذكور أن يدخلوا الفن من خلال قوتهم الجسدية أو مهارات خاصة مثل تقليد الآخرين أو الغناء أو التمثيل ببصمة خاصة به كالفنان المرحوم اسماعيل ياسين الذي كان لطريقة استخدامه لفمه واخراج الكلمات الدور الرئيس في كل أفلامه ومونولوجاته الفنية.
هناك ظاهرة تمثلت في وجود العائلات الفنية مثل الإخوة ذو الفقار ( صلاح وعز الدين ومحمود).
يلاحظ أنه لم يكن للبعد القيمي الديني دور في بدايات مسيرة الفنان، حيث كان يضطر أو يبحق عن أي دور لإثبات حضوره وأخذ حصته من النجومية، فكانت اغلب اللقطات الحميمة تشاهد في بداية مسيرة الفنان وفي شبابه، لكنه لوحظ أنه بعد انتهاء فترة الشباب والصحة والمظهر الجسمي الجذابن يتحول الفنان إلى أدوار تتناسب مع مرحلته العمرية ومستوى نضجه الفني، وصولاً إلى ما يدعى بتوبة الفنانين وتقديمه للمواعظ والنصح والارشاد للمجتمع وخاصة للقطاع الفني منه.
لغايات الحصول على أدوار في الفن، كان لا بد من تنازلات، وبلاحظ أن كثيراً من الفنانات قد بدأن حياتهن الاجتماعية بزواج من مخرج أو منتج أو كاتب، وهذا يعود إلى أنه لكي تتمكن الفنانة من ولوج باب الفن، لا بد من ولوج باب صاحب الفن.
كما يلاحظ تعدد حالات الزواج إلى درجة الاستهجان بين الفنانين، فتسمع عن فنان تزوج 10 مرات، وفنانة تزوجت 14 مرة، ويبدو أن هذه هي الطريقة المتاحة إما للحصول على مكاسب فنية أو للهروب من حالة العلاقات الغرامية غير المشروعة والتي يمكن أن تطيح بسمعة ومكانة الفنان.
لم يكن الفن يوما بيئة مثالية تقوم على التنافس النزية والجدارة، بقدر ما كانت بيئة حاسدة وحاقدة وطاردة، وقد تساقط في طريق الصعود العديد من الأشخاص الذين ارتقى عليهم البعض ممن أخذوا صفة النجومية والفن.
إن كثيرا من النجوم الذين ملأت الدنيا شهرتهم قد انتهوا نهايات حزينة وموجعة، منهم من انتحر أو وجد ميتاً في غرفة أو لم يجدوا له مكانا يدفن فيه، ومنهم من مات مشرداً فقيراً معدما. ولكي يتم بناء نظرية معقولة حول اسباب تلك النهايات، لا بد من اجراء تحليل لكل حالة منها.
يلاحظ وجود دور وأثر كبير للنظام السياسي في توفير الدعم وتمهيد السبل لطريق النجومية أو الحرمان منها ، بحيث يصير الفنان بوقاً مؤديا لكل ما يدعم توجهات النظام السياسي، وهذا ظهر على شكل أغاني تمجد الأشخاص أو افلام ومسلسلات تعلي من كل ما يمارسه النظام السياسي، بحيث يتداخل الفني مع السياسي، فتتدنى القيمة الجمالية للفن وامتداده التاريخي وعمق اثره الإنسانين وهذا ما نشهده من تلاشي واندثار لكثير من الأعمال الفنية التي تبنت وارتبطت بأشخاص ومراحل سياسية معينة، فيما ما زالت القيمة الجمالية والفنية قائمة للأعمال التي قدمت لأجل ذاتها وليس لغايات فرعية آنية مرحلية.
يلاحظ أن هناك من الفنانين من قبل على نفسه دور الإسناد في الفن أو مجرد أداء دور ما، وهؤلاء هم الأغلبية الذين يتذكر الناس أشكالهم لكنهم لا يعرفون أسماؤهم ولا شيء عن حياتهم.
يلاحظ أن الفنان الذي يحمل وعيا وفكرا واتجاهات سياسية ناضجة ومكتملة، يكون له حضور واضح في الأعمال ذات الصبغة الوطنية والإنسانية.
كانت الأفلام عبارة عن بطل واحد يصاحبه مجموعة من الفنانين السنيدة كما يطلق عليهم ، وهناك فنان أو أكثر يأخذون دور البطل المساعد والذي يمثل فاكهة الفيلم ، ويستمر ظهوره في هذا الدور، نذكر منهم عبد السلام النابلسي، عبد المنعم ابراهيم، توفيق الدقن، محمود المليجي.
كانت الأفلام بلا محتوى تقدمه للجمهورن فقط تستند إلى تعبئة وقت الفيلم وسرقة وثت الجمهور من خلال اسم البطل والفنانة التي تشاركه البطولة والتي في العادة تكون أعظم مؤهلاتها الفنية جسدها وحركاتها وايحاءاتها ورقصاتها ولا شيء غير ذلك.
كما أنه يلاحظ أن الأفلام أخذت شكلا احتكاريا بحيث أصبح البطل الذي تدور حوله أحداث الفيلم يشاركه نفس الأشخاص من الرجال والنساء.
أما من حيث الزمالة المفترضة، فالواقع يشير إلى أن الكيد والحسد وحب الظهور هو السائد بينهم، ونرى شواهد من هذه عندما نقرأ عن حياة بعض الفنانين ووفاتهم الذين لم يجدوا من يسير في جنازاتهم أحد ممن أمضوا العمر معهم في الفن.
أيضا لم يكن الفن يمنح حياة مترفة بقدر ما كان يمنح الفنان شهرة تثقل كاهله بما يدعى ضريبة الشهرة التي ستشكل عائقا أمام أي فنان يريد أن يواصل حياته في أي عمل يكسب منه ما يقيم أوده ويمنع عنه مذلة السؤال. كم سمعنا عن فنانين لم يجدوا ثمن طعامهم أو بدل أجرة شقة متواضعة أو علاج من مرض عضال، بل منهم من لم يجد ثمن كفن وقبر له.
هذه بعض الملاحظات السريعة لمسيرة الفن والفنانين التي لا تسعفنا هذه العجالة في منحها حقها من التحليل وتسليط الضوء عليها بشكل اوضح ويحمل إجابات كثيرة لأسئلة أكثر، ولا يخلو العمل الثقافي والأدبي والعمل الإعلامي من ذات الملاحظات، وإن كان لهما خصوصيات فرعية قد تجعل لهم شؤون وتفاصيل مغايرة في بعض جوانب سيرتهم الحياتية.
ما أود الخلوص إليه أن الفن والأدب والثقافة والإعلام، ليست دروباً مثالية يمكن للفرد أن يشق طريقه بها نحو القمة بيسر وسهولة ومن خلال الكفاءة والجدارة والتنافس الشريف، بقدر ما هي دروب متشابكة ذات مصالح متضاربة، ونفوس وأمزجة متباينة، كلها تصب إلى أن الحياة كد وكفاح، وليست كما يحلو للبعض أن يراها بأنها دروب منثور على جنباتها الورود والرياحين.