قبل أيام احتفل بعيد ميلاده التسعين أكبر سياسي معمر في روسيا، ميخائيل غورباتشوف
88
Share
الأردن اليوم : دخل ميخائيل غورباتشوف التأريخ حين أطلق إشارة البدء لتفكيك الاتحاد السوفيتي، وقيام شراكة، كان يصعب تخيلها، حتى في أحلام الظهيرة، بين موسكو وواشنطن، وصولا إلى التنسيق في أكثر الملفات تعقيدا، بما فيها ملفات الشرق الأوسط.
فعلى صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، أعاد غورباتشوف ووزير خارجيته إدوارد شيفردنادزة، العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بعد حرب حزيران 1967 بين موسكو وتل أبيب، واستضافت موسكو مؤتمرا للسلام في الشرق الأوسط، وصارت موسكو تلعب دور الوسيط، بدلا من الداعم بالمطلق للفلسطينيين، وفتح صاحب أشهر وشم أعلى الجبهة، أبواب الاتحاد السوفيتي واسعة أمام هجرة اليهود السوفيت، ليصبحوا أكبر كتلة بشرية في الدولة العبرية، عددا، وكفاءة، وجهدا ماليا وعلميا، في تعزيز وتثبيت الدولة التي قامت على احتلال أراضي الفلسطينيين.
ولم يدعم الزعيم السوفيتي، كما تخيل صدام حسين، غزو العراق للكويت، واحتلالها سبعة شهور.
ومع أن غورباتشوف عبر ممثله الخاص يفغيني بريماكوف، بذل جهدا لإقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت، وتجنيب شعبه والمنطقة ويلات الحرب، فإنه عمل جنبا إلى جنب مع الإدارة الأمريكية، حينها، لإرغام صدام على الانسحاب، وصوت وزيره شيفردنادزة، على قرار اللجوء إلى الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة، أي استخدام القوة العسكرية ضد العراق.
وأطلق غورباتشوف العنان، لحرية التعبير وللصحافة، التي انقلبت في الاتحاد السوفيتي السابق، بين عشية وضحاها، من الرأي الواحد إلى ألف رأي ورأي، ووجهت سهامها لغورباتشوف في المقام الأول، مستفيدة من شعار جذاب أطلقه الزعيم السوفيتي، مع وصوله إلى قيادة الدولة والحزب الشيوعي”غلاسنوست” أي المكاشفة والشفافية، وهاجمت الصحف مشروع” بيريسترويكا” أي إعادة البناء، مطالبة بالمزيد وصولا إلى إلغاء وحظر الحزب الشيوعي الحاكم.
ودخل مصطلح “بيريسترويكا” الأدبيات السياسية العالمية على أنه علامة فارقة لحقبة الزعيم السوفيتي، الذي سقط بفعل، بيريسترويكا وغلاسنوست!
فقد اتضح أن إصلاح النظام السوفيتي المتهالك، لا يمكن إلا أن يقود الى الانهيار والتفكك. وخلافا لإصلاحات الصين التي حافظت على الدور القيادي للحزب الشيوعي في بلاد المليار والنصف المليار نسمة، تكسرت نصال الحزب الشيوعي السوفيتي، مع أول معركة مع القوى الليبرالية المطالبة بالتغيير الجذري.
وكشفت الحرية التي أجاز مرورها غورباتشوف في كل زاوية من زوايا الدولة السوفيتية مترامية الأطرف، عن نزاعات قومية وعرقية، أفضت في غضون بضع سنوات الى تفكك الاتحاد السوفيتي، وهروب الجمهوريات السوفيتية، تباعا من خيمة الأخ الروسي الأكبر.
ولم يتمكن غورباتشوف، والمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، المنقسم بين محافظين صقور وليبراليين، عاشقين لليبرالية الغربية، والحلم الأمريكي، من احتواء أو السيطرة على عملية” التغريب “westernization” التي اجتاحت المجتمعات السوفيتية، وفي المقدمة المجتمع الروسي الذي أدهش المراقبين، بطابور امتد لعدة كيلومترات، في افتتاح أول مطعم للأكلات السريعة (ماكدونالدز) في موسكو، ليس بعيدا عن ضريح مؤسس الدولة السوفيتية فلاديمير ايليتش أوليانوف (لينين).
وتحولت ملكية كبريات الصحف السوفيتية، بما فيها صحيفة” برافدا” الشهيرة، لسان حال الحزب الشيوعي، الى ملكيات خاصة، وغصت صفحاتها، بمقالات كان سطر واحد منها يكفي، في الحقبة الستالينية، أو حقبة بريحنيف، لأن توصل صاحبها الى معتقلات سيبيريا المرعبة، أو في أقل احتمال الى مستشفيات الأمراض العقلية.
وكشفت بيريسترويكا غورباتشوف، عن خلل هيكلي، في الدولة العظمى، وتهاوت مثل بيت من قش، الامر الذي شهدناه أمام أعيننا، وشاركنا في تغطية أحداث تلك الأيام، التي هزت العالم، بعد أن هزت عشرة أيام في أكتوبر من العام 1917 العالم بثورة البلاشفة، ووصول الشيوعيين، الى السلطة في روسيا، وبروز القطب السوفيتي في الساحة الدولية، ودخول العالم في صراع القطبين.
وعلى مدى سبعة عقود تقريبا، من التجربة السوفيتية، بنى مواطنو روسيا والجمهوريات السوفيتية الأخرى، صروحا اقتصادية عملاقة، وبذلوا جهودا مدهشة، في بناء الإنسان والمجتمع، والاقتصاد، وحفزت المدرسة السوفيتية في مختلف المجالات، النظام الرأسمالي العالمي على أعادة نظر شاملة في أسسه، لمواجهة التحدي الذي مثلته الشيوعية في العالم.
وفي سنوات الجمود، وقبلها، ثلاثة عقود، من القمع، والعسف الستاليني، الذي أودى بحياة الملايين من خيرة أبناء شعوب القارة السوفيتية، والروس تحديدا، تراجعت جاذبية النظام الاشتراكي، ولم يطور أدواته، الاقتصادية في مواجهة تحدي، الإمبريالية التي وصفها لينين مؤسس الدولة السوفيتية، بانها أعلى وأخطر مراحل الراسمالية.
وانعكس التخلف الاقتصادي على مختلف مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية السوفيتية، حتى أصبحت ماركة “
أجينز” علامة فارقة على الترف والثراء، يمثل الحصول عليها، مكسبا! اما الانتلجنسيا السوفيتية، فقد كان الحصول على كتاب ممنوع، المرتجى، أما المؤمل فالقضاء على النظام.
لقد حقق غورباتشوف المصلح، أمال المعارضين للنظام السوفيتي، سواء تعمد ذلك، أم بالضرورة، ودخل التأريخ على عربة اسمها، آخر رئيس سوفيتي، أطلق رصاصة الرحمة على الدولة العملاقة، التي انهارت في غضون ثلاثة أيام.
تعامل غورباتشوف مع الصحافة بأريحية، خاصة بعد تنحيه، وصار يتحدث الى الصحف العالمية والقنوات التلفزيونية، عبر اتفاق مع مساعديه في ” صندوق غورباتشوف” مقابل مكافآت مالية مجزية.
وظل وديا وسخيا مع الصحافة الروسية، التي أسقطته صراحتها “غلاسنوست” وروجت لممثلي الرأسمالية المتوحشة، وصولا للقضاء على الدولة السوفيتية وبيع ممتلكاتها بالمفرق، وبأبخس الأسعار.