التل يكتب: تشوه الذوق الثقافي والفني

43

كتب محمد حسن التل..

أمس، كنت في سيارتي على أحد أطراف عمان وفوجئت بأزمة مرورية كبيرة ولم أعرف السبب حتى سألت أحد الأشخاص المتجمهرين على الطريق، فأبلغني أن هناك حفل غنائي لأحد المطربين، وأبلغني عن اسمه، ولشدة فضولي فتحت على “اليوتيوب” لأتعرف على هذا المطرب الذي دفع آلاف الشباب إلى أن يتحملوا التعب والارتفاع الكبير لدرجات الحرارة حيث يقفون تحت أشعة الشمس كي يحظوا بالاستماع إلى هذا المطرب أو على الأقل رؤيته، وصدمت عندما وجدت أغانيه وحركاته الهابطة على المسرح وهو يتحرك كالقرود ويحاول الغناء بكلمات غير مترابطة لا معنى لها، والشباب والشابات يقلدونه بحركاته وصراخه.

دفعني هذا الموقف لأكتب عن التشوه الذي أصاب الذوق العام في الأردن خصوصًا الفني والثقافي وكل المجالات الحياتية، حتى على المستوى الاجتماعي.

فعلى المستوى الثقافي مثلًا، نرى يوميًا أشباه شعراء وأشباه كتاب روايات بمعانٍ هابطة مشوهة لا تخاطب إلا الغرائز بعيدًا عن الثقافة والعقل، وللأسف يجد هؤلاء من يسمعهم، بل ويشجهم ويدعمهم. حقيقة لا يلام شبابنا على التعلق بهذه النماذج المشوهة لأنهم لا يجدون غيرها، فقد غابت الثقافة الحقيقية وغاب الفن الحقيقي بكل أنواعهما، ولم يعودا موجودين، فلم يجد هؤلاء الشباب البديل، وكانت النتيجة هذا التشوه والهبوط في ذوقهم. وهنا لا بد من الإشارة إلا تراجع المؤسسات الثقافية على المستويين العام والخاص، فعندما ننظر إلى النماذج الروائية المدعومة مثلًا أو الدواوين الشعرية أو الفنية من المؤسسات العامة نجد كم تعاني هذه النماذج من السطحية والركاكة، وكذلك تلك المدعومة من مؤسسات القطاع الخاص.

ربما نجد أيضا عذرًا لهذه المؤسسات، فهي لا تجد غير تلك النماذج في ظل انزواء أصحاب التجارب الثقافية العميقة وشعورهم بالإحباط نتيجة الجو العام المحيط بهم، الأمر الذي يضطر هذه المؤسسات في مهام عملها للتعامل مع الواقع الهابط.

الخطورة هنا أن هذا الفعل بات يطغى بظلاله على الواقع الثقافي والفني بكل مجالاته، فهناك عشرات الفنانين الأردنيين الكبار ابتعدوا لأنهم وجدوا أنفسهم وتجاربهم أكبر بكثير من المشاركة في هذا الحال المتردي، ولو أردنا البحث لمعالجة هذه الظاهرة لوجدنا أن إصلاحها ربما يكمن في معالجة تراجع التربية في البيت والمدرسة، حتى نصل إلى الجامعة التي غاب عن ساحاتها الفعل الثقافي الحقيقي لأسباب نعرفها جميعًا، ولكننا لا نجرؤ على التأشير عليها، وهنا يأتي دور المثقفين الحقيقيين لإعادة التوازن الحقيقي بواقعنا الثقافي والفني، وكشف الأسباب التي أدت إلى هذا الواقع لمحاولة استرداد ولو جزء منه، وهذا بحاجة إلى قرار سياسي حقيقي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه خدمة للأجيال والتاريخ.

وحقيقة هذا الواقع الذي تمر به الثقافة ويمر به الفن الأردني ليس حكرًا على الأردن فقط، فهناك كثير من الدول العربية فقدت بوصلتها في هذا المجال، وتاهت خلف سراب الحضارة والانفتاح اللذين فهمناهما بطريقة مغلوطة، لقد استطاع أعداؤنا الانتصار علينا ليس فقط على الجبهات العسكرية، بل اجتاحنا حتى الجبهات الثقافية وأغرقنا بكل هذه التشوهات وكل هذا الهبوط الفكري حتى لا نجد ولو بصيص نور على طريق النهوض، فالهزيمة الثقافية هي القاعدة الرئيسية للهزيمة على الجبهة العسكرية.

المطلوب اليوم أردنيًا من كل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية أن تنهض بنية صادقة وبقرار حقيقي للعمل على إعادة النظر بكل السلاسل التي تغذي المسيرة الثقافية الوطنية بما فيها المسيرة الفنية، لنعيد كما أشرت ذلك الواقع الثقافي المهيب الذي كنا نباهي به، فلقد خرج الأردن فيما مضى كتاب وشعراء وفنانين كبار، والسؤال الذي يجب أن نجيب عليه بصراحة اليوم: لماذا تراجعنا في هذا المجال؟ وما هي أسباب هذا التراجع؟ ولماذا انزوى الكثير من المثقفين والفنانين وابتعدوا عن الفعل الحقيقي؟ إذ يجب محاورتهم واحترام رأيهم حتى يكونوا شركاء في عملية الاسترداد التي نرنو لها للخروج من هذا الواقع الثقافي المشوه.

اترك رد